مائة عام من العزلة عن المدينة، مائة عام من العمل الشاق، مائة عام من التعرض للمخاطر من اجل العمل والعرق بين جبال الصحراء ورمالها، مائة عام من التعدين جعلتها عاصمة التعدين بين أقرانها، وجعلت العاملين بها اجسادًا استُهلكت كل ما تحوي داخلها، فأضحت بيتًا للأشباح، وأصبحوا أشباحًا بلا سكن.
أم الحويطات.. قرية صغيرة، أعطت وضحت برجالها منذ قرن من الزمان، حتي أصبحت عاصمة للتعدين، بيد أن رجالها هم من أقاموا حضارتها التعدينية التى آعلت من شائنها، لكنهم اليوم يتمون يوما من ايام العناء الذي كانو يرونه في تلك الأطلال الباقية من تلك القرية، والتي أصبحت مأوي لأشباح لا مأوى لهم، لكنها مازالت علمًا بعد أن تحولت من مقطن للمحاجر والتعدين واستخراج الفوسفات، إلى معلم لسياحة السفاري بين اطلالها الباقية، من مسجد ومنازل بسيطه أضحت أشبه بأثر وتراث تركوه عمال تلك المحاجر قبل تهجيرهم منها.
تقع قرية أم الحويطات جنوب محافظة البحر الأحمر على بعد يقرب من ثلاثين كيلو مترًا جنوب غرب مدينة سفاجا، ويبدأ تاريخها منذ أكثر من قرن من الزمان، أي ما يقرب من مائة وتسعة عشر عامًا، حيث تنبه الإحتلال الإنجليزي إلى أهميتها التعدينية عام 1902 ميلادية، وبالفعل قام ضباط الإحتلال باصطحاب مجموعة من المصرين إليها وشيدوا المنازل التي تأويهم، وأقاموا بها مجموعة من المحاجر ليعمل بها المصريون في استخراج معدن الفوسفات، فقد كانت بالنسبة لهم منطقة تعدينيه عملاقة، بل قلعة تعدينية يحتمون بمعادنها، وظل العمال يعملون بها حتى أنها أصبحت جزءا منهم، علي الرغم من انها كانت بالنسبة لهم مجرد جحيم معزولون فيها عن جنة المدينة.
قديمًا، كان يقطن تلك القلعة التعدينية ما يقرب من 16 ألف نسمة، منهم 11 ألف عامل من عمال المحاجر، استخرجو منها مئات الألاف من الأطنان، وصدرت الى معظم أنحاء العالم، فكانوا يصدرون ما يقرب من 53 ألف طنًا شهريًا من خام الفوسفات، واستمر الأمر بتلك الصورة لاجيال، فكانت أم الحويطات عاصمة تعدينية ضخمة الإنتاج، حتى تم تأميمها بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1956 ميلادية، لتُصبح مؤسسة إنتاجية تُدار بأيادي مصرية مائة بالمائة.
بدأت القرية عهدًا جديدًا من التعدين، صدرت فيها منتجاتها إلى كل دول العالم، لكن سرعان ما تحول الأمر من النهضة إلى السقوط شيئًا فشيئًا، فباتت القرية التي كانت في عهد الإحتلال الإنجليزي قلعة تعدينية إلى قرية مهددة بالإنقراض بعمالها وقاطنيها، وبالفعل سقطت القرية بعمالها بقرار من رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد الذي أصدر قرارًا بغلقها وإنشاء قرية جديدة تحمل نفس الإسم "أم الحويطات" لينتهي عصر تلك القرية وتبدأ معاناة أخرى لقاطنيها بقرية أخرى تحمل نفس الإسم، ولكنها لا تحمل بالنسبة لهم نفس المعنى الذي ترسخ في أذهانهم منذ عشرات السنين، فأصبحوا كالطفل الذي تركته أمه، والأم الذي تركت طفلها، مطالبين بعودة الحياة الى تلك القرية المهجورة، فما بقي منها سوى أطلال تذكرهم بعراقة ماضيهم فيها، فباتت للأشباح سكننًا، وباتوا أشباحًا بلا سكن.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية