مبني عتيق، يبلغ من العمر ما يقرب من 1800 عام، شيده الرومان عام 238 ميلادية في عهد الإمبراطور الروماني "كورديان الثاني"، ويُعد أحد أهم وأكبر ثلاثة "كولوسيوم" أو مدرج روماني في العالم، وذلك بعد مسرح كولوسيوم روما ومسرح كولوسيوم كابونا، ويقع في مدينة صغيرة تتبع ولاية المهدية المُطلة علي الساحل الشرقي لتونس، تُسمي مدينة "جم"، وكان يُطلق علي المهدية اسم "يسْدْرُوسْ" في العهد الروماني.
وقد عُرف قصر الجم أو مدرج الجمّ كما يحلوا للبعض أن يطلقوا عليه، بين السكان المحليين باسم قصر الكاهنة، نسبة للكاهنة "ديهيا بنت تابنة"، والتي اشتهرت بلقب كاهنة البربر، وهي قائدة بربرية خلفت الملك كسيلة، زعيم قبائل أوربة وصنهاجة الأمازيغية زمن الفتح الإسلامي للمغرب، في حكم البربر وحكمت شمال أفريقيا مدة 35 سنة.
لم يكن الكولوسيوم، أو ما يسمى بـ"المدرج الفلافي" في مدينة جم التونسية، مجرد مسرحًا رومانيًا عظيمًا يضاهي في عظمته ومساحته نظيره في عاصمة الإيطالية روما، بل ويتجاوزه جمالًا وروعة، فقد عالج المصممون كل الأخطاء الهندسية التي وقعت في بناء الكولوسيوم بالعاصمة الإيطالية روما، وهو ما يفسر بقائه بتلك الحالة حتي اليوم، حتي أن علماء الآثار والتاريخ الروماني يرونه الأكثر إبداعًا معماريًا وفنيًا، ويقف شاهدًا علي حضارة ورقي مدينة "يسْدْرُوسْ" التونسية.
طيلة ثمانية عشر قرنًا أو يقل قليلًا، شكل قصر الجم مسرحًا لأهم الأحداث التاريخية، إذ شهد العديد من الأحداث التي شكلت منعطفات في التاريخ الإنساني، وذلك باعتباره واحدًا من أعظم الآثار الرومانية في العالم، فقد كان مُخصصًا للحلبات القتالية الاستعراضية، كقتال الرجال للأسود والنمور المتوحشة، أو صراع الوحوش مع بعضها البعض، أو قتال الفرسان لبعضهم البعض لأغراض السلطة، وكان المسرح يمتلئ بأكثر من 30 ألف من النبلاء وأفراد الشعب من العامة، ومنذ ما يقرب من عقدين بدأ يشهد العديد من المُلتقيات والمهرجانات الثقافية، كمهرجان الموسيقي السمفونية، بالإضافة إلي عدد من التظاهرات الفنية.
تبلغ مساحة قصر الجم الروماني ما يقرب من 18 ألف متر مربع، حيث يصل طوله حوالي 148 مترًا، وعرضه حوالي 122 مترًا، أما حلبته فتبلغ حوالي 2535، حيث تصل أبعاد طوليه 65 مترًا في 39 مترًا، وتسع مدرجاته لقرابة 35 ألف متفرج، ويصل إرتفاع واجهته ما يقرب من 36 مترًا، ويقع تحت حلبته رواقان عريضان كان يدخل منهما الممثلون والفرسان والمصارعين من أسرى الحرب والسباع الضارية، يصلهما الضوء من الفتحة الوسطى للحلبة، حيث كان المصارعون والوحوش يؤسرون في غرف تحت الحلبة، ليتم إطلاقهم في الأعياد والمناسبات الضخمة، والتي تشهد إقبالاً جماهريًا ضخمًا من الشعب والنبلاء.
وقد اشتهر قصر الجم في بعض الكتابات العربية القديمة باسم "قصر الكاهنة"، ويرجع ذلك لما فعلته ملكة البربر "ديهيا بنت تابنة"، ففي أثناء الفتح الإسلامي لتونس في أوائل القرن الثامن الميلادي، احتمت داخله بصحبة جيشها لأكثر من أربعة أعوام، وذلك إثر هزيمتها في المعركة الثانية أمام حسان بن النعمان الغساني، والذي كان قد طلب الإمداد من عبد العزيز بن مروان إثر هزيمته في المعركة الأولى، لذلك سمي قصر الجم بقصر الكاهنة، وفي عام 1979، قامت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم "اليونسكو" بادراجه على لائحة مواقع التراث العالمي، ليضاف بذلك إلى المواقع الأعرق والأجمل في العالم.
وفي عام 1695 فقد قصر الجم بعض من أجزائه، وذلك نتيجه قيام بعض المعارضين الذين قاموا بالثورة ضد باي تونس محمد الخامس بالإحتماء بمدرجات مسرحه، وبمجرد إخماد ثورتهم أمر الباي بهدم الجانب الغربي من القصر حتي لا يتحصن فيه غيرهم في المستقبل، واليوم تحول قصر الجم إلي متحفًا مفتوحًا إلي جانب تنظيمة للمهرجانات الثقافية والموسيقية، ويضم العديد من القطع الأثرية النادرة في العالم، وقد نُقل البعض منها إلي متحف الجم، والبعض الأخر ينتشر في عدد من المتاحف الأخرى، بعضها لحفريات وقطع نادرة من الفسيفساء التي تصور الحياة اليومية للسكان، وقد وجدت داخل الكثير من الغرف والاقبية أسفل المسرح، كما يقال إن هناك العديد من السراديب الطويلة تصل القصر بالعديد من المناطق بعيدة، ولكنها لم تكتشف بعد، ويؤكد المؤرخين أن السكان المحليين استخدموها أيام الحروب لجوءًا إلى قرطاج والبحر.
ازدادت شهرة قصر الجم أو قصر الكاهنة في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك عندما استضاف أول مهرجان للموسيقى السمفونية، حيث تضاء الشموع في كل صيف في مختلف أروقته مشكلة لوحة تجمع بين سحر الأثر التاريخي وإبداع الفن المعاصر لتعلن انطلاق دورة جديدة من مهرجان الموسيقى السمفونية بمدرجات القصر، وفي شهر مارس من كل عام يستضيف القصر عروضًا فنية تحاكي الحضارة الرومانية في أبهى تجلياتها وتلقب بـ"عودة الرومان" وينطلق من إحدى الطرق المؤدية إلى الكولوسيوم كرنفال استعراضي لمجموعات شبابية ترتدي الألبسة الرومانية، محاطة بسرايا من الجيش، مرفوقين بعازفين على آلات موسيقية تحاكي إيقاعات الحرب، ويتقدم الموكب الملك موشحًا بدرع برنزي ومحاطًا بقادته، وتقدم العديد من اللوحات الفنية الراقصة ومشاهد المصارعين هي الأولى من نوعها التي تحاكي عرض لودوس ludus الذي كان يقدمه أثرياء المدينة والسياسيون في العهد الروماني عند اقتراب المواعيد الانتخابية لكسب ود الجماهير.
المصادر:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية