منذ ما يقرب من قرنين وربع، وتحديدًا في العام 1798، حاول نابليون بونابرات استعمار مصر، ورغم فشله في ذلك، وخروجه علي إثر مقاومة الشعب المصري العنيف له، إلا أنه جعل العالم يلتفت إلي تلك الدولة التاريخية العريقة، خاصة بعد أن تمكن فريقة العلمي من وصف مصر، واعادة اكتشاف كنوزها بعد ما يقرب من القرنين من التجاهل.
فُتن الغرب من جديد بتلك الحضارة العريقة، لذا سعي مستكشفيه ورحلاته لبحث أسراره الغامضة، أهم هؤلاء المستكشفين الرحالة والصحفي والمصور الفرنسي ماكسيم دو كامب، والذي يُعد أحد المصورين الوثائقيين الاوائل في العالم، والذي قرر فجأة أن يقوم برحلة تصوير سيخلدها التاريخ الإنساني كأول رحلة تصوير وثائقي في التاريخ، لذا قرر فجأة أن تكون تلك الرحلة إلي تلك الدولة التي أثارت شغف العالم، إلي مصر.
وصل المصور الفرنسي ماكسيم دو شامب بصحبة صديقه الأديب الكبير جوستاف فلوبير مدينة الإسكندرية مطلع عام 1849، وذلك في عهد عباس حلمي الأول، حفيد محمد علي باشا، يحمل بين أدواته كاميرا فوتوغرافية لتوثيق الحياة المصرية بكل ما فيها من إثارة وغموض، فعلي الرغم أنه لم يكن أول مصور محترف يصل إلي مصر لإلتقاط بعض الصور، فقد شهدت مصر أول عملية تصوير بواسطة المصور الفرنسي فردريك جوبيل، وذلك في عام ١٨٣٩، حينما قام بتصوير قصر حريم محمد علي باشا بالإسكندرية، إلا أن تلك التجربة التي قام بها مكسيم دو شامب كانت الأهم علي الإطلاق، فقد أعدها المؤرخين أول عملية ترويج سياحي مصور للدولة المصرية.
كانت الكاميرا التي يحملها "دو شامب" من النوع "Calotype"، وحامل للتصوير ومجموعة من المواد الكيميائية للتحميض، وهذا النوع من الكاميرات كان لايزال جديدًا للفرنسيين، فقد كان عبارة عن صندوق خشبي داخله عدسة، تلتقط صورا سلبية على ورق مغطى بطبقة من كلوريد الفضة، ثم يتم معالجتها بالمواد الكيميائية لتحويلها علي صور إيجابية واضحة، لذا لم يكن "دو شامب" راضيًا عنه بشكل كاف، ولكنه اضطر لإستخدامه لأنها صغيرة الحجم نسبيا، ويسهل حملها ويتم طباعة صورها على ورق عادي ومتاح، كما أنها تنتج صورا متميزة ذات جودة عالية، لذا تعلم طريقة تحميض الصور من صديقة المصور والناشر الفرنسي لويس ديسير بلانكوارت يڤرارد، ما مكنه من اقناع الحكومة الفرنسية لدعم رحلته التصويرية إلي مصر.
رغم أن دو شامب أحد أثرياء باريس، إلا أنه لم يقوم بتمويل رحلته، لذا قام بالإتصال بوزارة التعليم الفرنسية طلبًا للرعاية والدعم المالي، مبررًا ذلك بأنه يستكمل ما بدأه علماء الحملة الفرنسية من استكشاف وبحث ودراسة بلاد الشرق، وعلي رأسها أرض الحضارات مصر، والتي اعتبرتها الحكومة والشعب الفرنسي الأرض الأسطورية التي يجب اعادة احيائها واستكشافها، لذا بمجرد أن وطأت قدميه مصر، قام بالتركيز علي تصوير الآثار المصرية القديمة والإسلامية المنتشرة في ربوع مصر، فقام بتصوير الأهرامات وأبو الهول والآثار المصرية في جنوب مصر، وتحديدا في الأقصر، لتبدأ أول عملية ترويج سياحي مصور عن مصر، خاصة وأن "دو شامب" قام بتدوين مذكراته كسائح عن تلك الرحلة الشيقة إلأي بلاد الفراعين.
كان جسدي يرتجف، وشحب وجهي عندما شاهدت تمثال "أبو الهول" للمرة الأولى، حتي أنني لم أعد قادرًا على الحركة من هول وعظمة ذلك التمثال".. هكذا كتب المصور الفرنسي ماكسيم دو شامب في مذكراته بمجرد أن وقف أمام تمثال أبو الهول بالجيزة، وعقب عودته إلى فرنسا، قام بإعادة تحميض الصور التي التقطها من جديد علي ورق مقوي، قبل أن يقوم بتجميعها في كتاب موسوعي عام 1852، والذي حمل عنوان "مصر، النوبة، فلسطين، سوريا"، ليُصبح أو موسوعة تسجل أول رحلة مُصورة في التاريخ الإنساني، بل وأول كتاب عن هذه المنطقة من العالم يتم توضيحه بصور حقيقية.
قضي "دو شامب" في مصر 21 شهرًا، التقط خلالها مئات الصور الأثرية والطبيعية لأغلب المحافظات المصرية، أغلب تلك الصور أُلتقطت لأول مرة في التاريخ، أهمها علي الإطلاق أول صورة شمسية التقطت في مصر على الإطلاق، باعتراف مكتبة الإسكندرية، كما أنه قام بتسجيل كل شيء بالمعلومات الموثقة قدر استطاعته، حتي يقدم للقارئ الأوروبي معلومة متكاملة تدعم تلك الصور التي التقطها، لذا قدم بعض الصور لشخصيات بشرية لأغراض مرجعية، ليعبر عن الحياة الطبيعية للمواقع التي قام بتصويرها.
علي عكس المصورين المحترفين الفرنسيين الذين جاءوا إلي مصر عقب تلك الرحلة، اظهرت الصور التي قدمها "دو شامب" مدي عدم احترافيته كمصور فوتوغرافي، فأغلب الصور رغم أهميتها كأول صور تم التقاطها، إلا أنها تفتقد إلي الفن والخيال، ما يؤكد أن ماكسيم دو شامب لم يتلقي اي تدريب فني للعمل كمصور أثري وطبيعي محترف، ورغم ذلك نجح في نقل بعض الصور التي تُظهر جانب من الغموض والسحر عن مصر، وكان أكثر ما يهدد تحقيق ذلك أن الضوء في مصر أكثر إشراقًا من نظيره في فرنسا، ورغم عدم وجود أي عدادات ضوئية في ذلك الوقت، لذا كان علية أن يقوم بالتصوير لعدة مرات حتي يتأكد من التقاط صورة جيدة، ما يفسر الأسباب التي جعلته يعمل في تلك الرحلة لعامين متصلين، ولتصبح تلك الرحلة المصورة هي ولادة "التصوير الفوتوغرافي للسفر".
المصادر:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية