قبل اختراع العجلة وتطوير المركبات ذاتية القيادة، كانت البغال والحمير هي الوسيلة الأسهل والأرخص في مصر منذ أكثر من قرنًا ونصف، منذ آلاف السنين كانا وسيلة المصري الذي نزل إلي الوادي بحثًا عن الاستقرار حول نهر النيل، تمكنرمن ترويضهما لاستخدامهم في نقلهم من مكان إلي مكان، مرت السنين وأضحت هناك فئة تمتلك حق تنظيم وسيلة النقل، تلك الفئة سمت نفسها فئة مكاري مصر.
مكاري مصر، أو "أوبر" القرن التاسع عشر، مهنة انتشرت في مصر قديمًا، وثقها العديد من المؤرخين والكُتاب، شاهدنا بعض تفاصيلها في بعض الأعمال السينمائية القديمة، والمكاري وفقًا للقاموس ومعاجم اللغة تعني صاحب الحمار أو البغل، بل ويستخدمه كوسيلة للتنقل والسفر، كما إنها تعني أيضًا من يتولي رعاية وتأجير كليهما لكل من يرغب في الانتقال من مكان لمكان أخر.
مع ظهور الترام عام 1896، بدأت مهنة "المكاري" في الاختفاء رويدًا رويدًا، ورغم محاولات "المكارية" للتصدي له وإطلاق العديد من الشائعات حوله، حتي أنهم أطلقوا علي الترام اسم "العفريت"، وروجوا لفكرة أنه يُصيب النساء بالعقم، في محاولة يائسه منهم للحفاظ علي زبائنهم واستمرار مهنتهم التي حافظوا عليها قرون طويلة، فقد كان للحمارين يومًا شأنًا عظيمًا، وأهمية كبري، فقد كانوا الوسيلة الرئيسية للتنقل داخل شوارع وحواري وأزقة القاهرة الضيقة، وسعر خدمتهم دائمًا في متناول يد جموع المصريين أغنياء وفقراء، وكان من السهل استئجار حمارًا من "المكاريين" المنتشرين في ربوع المحروسة، فقد كان لهم ميادين ومراكز تجمع عند أبواب القاهرة ومداخل أسواقها.
لم تكن مهنة الحمارة أو المكاري مهنة جديدة علي المصريين، فقد بدأت كما قلنا من قبل في عصور سحيقة، قد تكون قبل عصر الأسرات بالاف السنين، ولكن المصري ما بعد التاريخ قام بتوثيق تلك المهنة علي جدران معابده، وقد عُثر بالفعل علي بعض الرسوم التي تؤرخ لذلك، أهمها علي الإطلاق ما جاء في مصطبة "ورخو"، والتي تعود إلي عهد الأسرة الخامسة، وعُثر عليها في صحراء الجيزة، وتُظهر حمارين يحملان محفة بينهما لجلوس موظف للتفتيش على أعمال الحقول، كما أن الرحلات التي قام بها المصريون في عهد الدولة القديمة إلى سينا ومصر العليا، كانت تتم بوساطة الحمير، وفي عهد الأسرة السادسة قام "حرخوف" قائد الجند في مصر العليا، برحلته للبحث عن البخور والعاج من أعالي بلاد النوبة، وكان معه ٣٠٠ حمارًا، وقد عاد بها محملة بالنفائس من هذه الجهات.
وفقًا للمؤرخ المصري علي باشا مبارك في موسوعته الخطط التوفيقية، بلغ عدد "الحمارة" أو "المكاريين" في نهاية القرن العشرين بمدينة القاهرة فقط حوالي 1739، وهو عدد كبير جدا بالنسبة لأعداد باقي الحرفيين،ما يعني أن مهنة "الحمارة" كانت أكبر الطوائف الحرفية تعدادًا، ما مكن سكان القاهرة والقري المجاورة لها من التنقل بسهولة بالرغم من اتساع المدينة، وذلك بسبب كثرة أعداد الحمير والبغال التي لم يخلو منها شارع من شوارع القاهرة.
ولأن الحمار كان هو الدابة الرئيسية لنقل العامة من المصريين، جاء إهتمام المكاري به، فقد كان يجهز حِماره ببرذعة محشوة يغطي مقدمها بالجلد الأحمر، ويغطي مقعدها بشرائط صوفية ناعمه، وكانت تلك البرذعة تختلف في نوعها وشكلها باختلاف الزبون، فاذا كان الزبون إمرأة، يقوم بتجهيز برذعة مرتفعة وعريضة يقوم بتغطيتها بسجادة صغيرة، لذا يُلق علي الحمار في تلك الحالة بالحمار العالي، ويسير في ركابها رجل أو رجلان كل منهما في جانب، إذا لم تستطيع السيدة الحصول علي حمار عال كنساء الطبقات العليا والوسطي، فكانت تركب حمارًا مما يركبه الرجال بعد أن يوضع علي البرذعة سجادة وكثيرا ما كان يفعل ذلك نساء الطبقة الدنيا والطبقة الوسطي.
كان لثورة القاهرة الثانية في عام 1800 ضد الإحتلال الفرنسي، دورًا مهما في نمو مهنة الكاريين في القاهرة، فقد أدت الضغوط الإقتصادية نتيجة فرض "كليبر" للعديد من الضرائيب الاستثنائية الباهظة، فساءت الأحوال، وأغلقت الحوانيت، والمخابز، وكل المهن والحرف الأخري، ما اضطر أغلب الحرفيين للجوء إلي العمل حمارًا "مكاريًا"، حتى صارت الازقة خصوصا جهات العسكر مزدحمة بالحمير، وهو ما أجبر في نفس الوقت الحكومة المصرية وضع العديد من الشروط والضوابط لمن يرغب في العمل "حمارًا"، فعلية أولًا أن يقوم بتسجيل اسمه ولقبه وجنسيته بالمحافظة، وأن يكون سليم البنية خاليًا من العاهات والامراض، وبعد أن يتم قبوله كان يتسلم صفيحة منمرة، ليضعها علي رأس حماره، وقد كانت المحافظة تقوم بتعيين شيخ لـ"المكاريين" لتنظيم شئونهم الداخلية، ولعدم خبرة المكاريين في ذلك الوقت، اضطر بعضهم لتعيين صبه صغار يقومون بالجري بجانب الحمار أو أمامه لإبعاد المارة حتي لا يُصاب أحد منهم، إلا أن هذه النداءات لم تكن تمنع إصابة بعض الركاب أحيانًا.
المصادر:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية