"شهر رمضان في مصر يختلف عن أي دولة أخري".. تلك هي الإجابة المتوقعة لأي زائر لمصر في هذا الشهر الكريم، فجميع طقوسه تُعد ميراثًا شرعيًا لكل الحضارات التي شهدها وادي النيل، ما جعل لهذا الشهر نكهة خاصة تختلف عن جميع البلاد الإسلامية.
فوانيس وزينة رمضان، مدفع الإفطار، موائد الرحمن، المسحراتي، كنافة وقطايف، وصوت النقشبندي يُطربنا ساعة الإفطار، والكثير من الطقوس التي ظهرت أولاً في مصر، قبل أن تنتشر في جميع أنحاء العالم العربي، بل والإسلامي أيضًا، وان كانت في مصر ذو مذاق خاص يختلف عن أي بقعة في العالم.
تبدأ نسائم شهر رمضان بمجرد أن ينتصف شهر شعبان، ويمكن لأي زائر أن يلاحظ احتفالات المصريين واستعداداتهم لاستقبال هذا الشهر، فيقوم الصغار والكبار بتزيين الشوارع والمحال والمنازل، تعبيراً عن استعدادهم لرمضان، ويبدأ الباعة الموسميين في بناء مواقع تجارتهم، فتمتلئ الشوارع بباعة الحلوى الشرقية، مثل الكنافة والقطايف، والمخللات المختلفة الملونة التي لا تكتمل موائد الإفطار سوى بها، إلى جانب انتشار محال وأكشاك بيع المشروبات الرمضانية الشهيرة، مثل قمر الدين، التمر الهندي، العرقسوس، السوبيا، وغيرها من المشروبات التي يحبها المصريين.
زينة رمضان
في كل شارع، في كل حارة، في كل حي، في كل قرية، أغنياء وفقراء، عادة مصرية تحولت الي تراث شعبي، أعتاد عليها كل طبقات وطوائف الشعب المصري، ما ان يهل شهر رمضان حتي يسارع الجميع صغار وكبار لتجهيز زينة شوارعهم، تلك الزينات التي بدأت في بدايات حكم الدولة الفاطمية، حيث كانت تُستخدم في الاحتفالات الدينية الذي كان يُطلق عليها "ليالي الوقود"، وهي الليالي الإسلامية الدينية الأربعة، أول ونصف أشهر رجب وشعبان، فكانت تضاء المساجد بالقناديل والفوانيس وتتزايد الأطعمة والحلوى والبخور بكثرة.
"راعي شئون الشارع".. اسم كان يطلق علي مسئول شوارع القاهرة في العهد الفاطمي، وهو ما يوازي اليوم وزير التنمية المحلية، قبل بدء شهر رمضان بأيام معدودات، كان يأمر كل أصحاب المحلات بتنظيف الشارع كل ليلة بعد صلاة المغرب، وبوضع القناديل والفوانيس أمام محلاتهم للإضاءة، بالإضافة إلي تزيين الشوارع، ويعود السبب وراء ذلك أن أهالي المحروسة اعتادوا الخروج من منازلهم بعد الإفطار للاستمتاع بالمنشدين داخل الخيم الرمضانية التي كانت تعدها المقاهي.
فانوس رمضان
ما أن تهل علينا نسائم الشهر الكريم، حتي تخلع شوارع تلك المدينة الصاخبة عباءتها النمطية، لترتدي ثوبًا جديدًا زينته تلك المصابيح الملونة، أُطلقنا عليها منذ قديم الأزل اسم الفانوس، فبمجرد أن ينتصف شهر شعبان يخرج صانعوها من بياتهم الشتوي، ثم ينطلقوا إلي ورشهم ليبدأوا في صناعة فوانيس رمضان، تلك الفوانيس التي استقبل بها المصريين المعز لدين الله الفاطمي في رمضان، وكان ذلك يوم الخامس من رمضان عام 358 هجرية.
وطيلة أكثر من ألف عام يظل الفانوس رمز خاص بشهر رمضان في مصر، فقد انتقل هذا التقليد من جيل إلى جيل، وحتي اليوم يقوم الأطفال والصغار بحمل فوانيسهم طيلة شهر رمضان، والخروج إلى الشوارع مرددين بعض من أغاني الفولكلور الرمضاني، كأغنية "حلو يا حلو"، أو أغنية "وحوي يا وحوي"، ويحرص الصغار والكبار قبل بدء رمضان ببضعة أيام علي اقتنائه لتعليقه في الشوارع وأمام المنازل.
المسحراتي
"اصحي يا نايم اصحي وحد الدايم.. وقول نويت بكره ان حييت.. الشهر صايم والفجر قايم.. اصحي يا نايم وحد الرزاق.. رمضان كريم".. من منا لا يذكر تلك الكلمات، والتي أبدع في كتابتها الشاعر الكبير فؤاد حداد، وقام بتلحينها وغناءها الفنان الكبير سيد مكاوي، تلك الكلمات التي كانت عنوان لشهر رمضان الكريم، أضحت تراثًا إسلاميًا يرتبط بشهر الصيام.
وكلمة المسحراتي مشتقة من كلمة سحور، والمسحر هي وظيفة أو مهمة يقوم بها شخص لتنبيه المسلمين ببدء موعد السحور، وبدء الاستعداد للصيام، تبدأ تلك المهمة بانطلاق المسحر قبل صلاة الفجر بوقت كافي، يحمل في يده طبلة وعصا، ينقر عليها صائحًا بصوت مرتفع "اصحي يا نايم اصحي وحد الدايم"،
بدأت تلك الوظيفة مع بدء التاريخ الإسلامي، وكان بلال بن رباح، أول مؤذن في الإسلام، اعتاد أن يخرج قبل صلاة الفجر بصحبة ابن أم كلثوم، ويقومان بمهمة إيقاظ الناس، فكان الأول يطوف بالشوارع والطرقات مؤذنا طوال شهر رمضان، فيتناول الناس السحور، في حين ينادي الثاني، فيمتنع الناس عن تناول الطعام.
قصة المسحراتي في مصر بدأت منذ ما يقرب من 12 قرن مضي، وتحديدًا عام 853 ميلادية، انتقلت مهمة المسحر إلي مصر، وكان والي مصر العباسي، إسحاق بن عقبة، أول من طاف شوارع القاهرة، ليلًا في رمضان لإيقاظ أهلها لتناول طعام السحور، فقد كان يذهب سائرًا على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط، إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور.
ومنذ ما يقرب من ألف عام، وتحديدًا في عصر الدولة الفاطمية، أمر الحاكم بأمر الله، الناس أن يناموا مبكرا بعد صلاة التراويح، وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، حتي تم تعيين رجلا للقيام بتلك المهة، أطلقوا عليم اسم "المسحراتى"، كان يدق الأبواب بعصًا يحملها قائلاً: "يا أهل الله قوموا تسحروا".
كان "ابن نقطة"، المسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وعلي يديه تطورت مهنة المسحراتي، فتم استخدام الطبلة، والتي كان يُدق عليها دقات منتظمة، وذلك بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى "بازة"، صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتى دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة، فأصبح المسحراتي يشدو بأشعار شعبية، وقصص من الملاحم، وزجل خاص بهذه المناسبة.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية