"لقد اشتد عداء كهنة آمون.. لن يمكنني السيطرة على غضبهم، وغضب تابعيهم.. أين المفر بإيماني ومعتقدي".. سيطرت تلك العبارات علي عقل "أمنحوتب الرابع" أحد فراعنة الأسرة الـ18، والذي عُرف بفرعون التوحيد، إخناتون، فدعوته إلى عبادة الرب الواحد "آتون" لم تلقى قبولا لدي كهنة آمون، بل وأظهروا عداءًا شديدًا لها، وله، وأصبح الوضع في غاية الخطورة، حتى أصبح مضطرًا للهرب من طيبة، والبحث عن مكان جديد لينتقل إليه ويدعوا إلى ربه.
"أخيتاتون"، أو "تل العمارنة"، تلك المدينة التي اضحت عاصمة للدولة المصرية خلفًا للعاصمة التاريخية ملكة الجنوب "طيبة"، ورغم الشكوك التي تحوم حول قصة تلك العاصمة، إلا إنها تقع اليوم علي بُعد 58 كيلومتر جنوب مدينة المنيا، و312 كيلومتر جنوب القاهرة، و402 كيلومتر شمال الأقصر، وتمتد لخمسة أميال على طول الشاطئ الشرقي للنيل، عندما أنتهي بناء المدينة في العام الرابع من حكمه، أنتقل إليها تاركًا خلفه كلا من منف وطيبة، اللتان كانتا عاصمتي مصر، وقرر أن يعيش في العاصمة الجديدة ليتمكن من عبادة آتون، لذلك أطلق عليها "أخت أتون"، أي قرص الشمس.
يرى البعض أن إخناتون اختار تلك المنطقة تحديدًا، لموقعها الفريد الذي جعلها منعزلة بعض الشيء، فسلاسل الجبال التي تحيطها من الجهات الثلاث الشمالية والشرقية والجنوبية، ونهر النيل الذي يمتد بطول جانبها الغربي عزلها عن العالم، ليكون قادرا على ممارسة عبادته دون أن يزعج أو ينزعج من كهنة آمون أو مورديهم، وقد احتاج إلى دعم الجيش لينتقل من طيبة إلى العمارنة، ويرجع تسمية تلك العاصمة بتل العمارنة إلى قبيلة بني عمران التي هاجرت إليها في القرن السادس الهجري واستوطنوها.
لم تستمر فترة حكم إخناتون أكثر من 17 عامًا، وعندما توفي خلفه أبنه "سمنخ كا رع"، الذي حكم فترة صغيرة، لا تزيد عن 10 سنوات، ثم تلاه في الحكم أخيه "توت عنخ آتون"، والذي كان صغيرًا في السن، فاستغل كهنة آمون الأمر، ومارسوا عليه الضغوط حتى أرتد عن فكرة الإله الجديد آتون، والذي كان يدعو له والده، وأعلن عودة عبادة آمون، وغير اسمه إلى "توت عنخ آمون"، فقامت كهنة طيبة بتدمير آثار إخناتون ومدينته، ومحو اسمه من عليها، وهجرها الناس.
التخلي عن المدينة بعد وفاة إخناتون، جعلها المدينة الوحيدة من بين المدن المصرية القديمة التي تحتفظ بتفاصيل كبيرة عن خطتها الداخلية، وجاءت النقوش على أحد معابد "حور محب" آخر فراعنة الأسرة الـ18، في نهاية القرن الـ14 قبل الميلاد، لتظهر أنها كانت مأهولة بالسكان بشكل جزئي وليس كاملا في بداية عهده، ثم هجرها السكان بشكل كامل، حتى أستوطنها الرومان على طول حافة النيل، كما عثر الأثريون على 14 لوحة حدودية تشرح شروط إخناتون لإنشاء تلك العاصمة.
أقام "واينري" أبن إخناتون نصبًا تذكاريًا لوالده، عربة كبيرة تمثل آتون عندما يرتفع في الأفق ويملأ الأرض بأشعته، ومنها أتخذ طريقا إلى المدينة الجديدة، ما أسعد إخناتون كثيرًا، حتى إنه اعتكف لعبادة إلهه الواحد آتون، وقد عثر الأثريون على مسلة تصوره وهو يقف مع زوجته وابنته الكبرى، قبل أن ينهض إلى المذبح مقدمًا القرابين إلى آتون، وهو يتلقى أشعته على جسده، اعتقادًا منه أنه يباركه ويجدد جسده بأشعته، ورغم التوحيد، إلا أن الحفريات الأثرية أظهرت عبادة عدد من الآلهة، فُعثر على بعض الرموز والهياكل في قرية العمال الملكية، للإله بيس، والآلهة الوحش تاوريت، بالإضافة إلى الآلهة إيزيس.
بمجرد أن تطأ قدميك تل العمارنة من الجانب الشمالي، تجد القصر الملكي الشمالي، والذي كان المقر الرئيسي للعائلة الملكة، ويقع على بعد 3 كيلومتر شمال المدينة المركزية، عبارة عن قلعة كبيرة محاطة بسور ضخم، تم التنقيب عنه لأول مرة عام 1930، ورغم أن النهر جرف الكثير من أساساته، إلا أن جداره مازال يحتفظ بصلابته، فيبلغ سمكه 1.5 متر، ويحتوى على أبراج مربعة الشكل، مثبتة على مسافات متساوية، يمتلك بوابة واحدة، داخله أجزء من الجص تظهر الفرعون في عربة، وإن كان لم يتضح إذا كان هذا الفرعون إخناتون أم أحد خلفائه.
إلى الجنوب من القصر، تقبع مقابر العائلة الملكية التي يطلق عليها مقابر الصخرة، تتكون من 6 مناطق حُفرت في الصخر منذ عهد الملك إخناتون، تضم 25 مقبرة خصصت للنبلاء والحاشية، وتنقسم إلى جزئين، الشمالي يحتوي على 6 مقابر ارتفاعها أكبر من ارتفاع المقابر الجنوبية، والتي تتكون من 19 مقبرة، وتقع فوق الهضبة المنخفضة، وما بين المقابر الشمالية والجنوبية يوجد الوادي الملكي، ومقبرة إخناتون.
أضحي القصر الملكي مقرا لأعظم ملكة في تاريخ مصر، الملكة نفرتيتي، زوجة إخناتون، أما في وسط المدينة، فكانت توجد بها أغلب المباني الإدارية الهامة، والإحتفالية، مثل معبدي آتون الكبير والصغير، بينهما القصر الملكي الكبير الذي كان مقرًا رسميا للملك والأسرة الملكية، خلف القصر يقع مكتب مراسلات فرعون، الذي عُثر فيه على رسائل العمارنة، أو مسارد تل العمارنة أو ما يُعرف بأرشيف العمارنة، عبارة عن مجموعة كبيرة من الرُقم الطينية المكتوبة باللغة الأكادية "البابلية"، والخط المسماري التي وجدت في أرشيف قصر الملكي.
في الجنوب من المدينة، توجد مجموعة من المباني الخاصة بالنبلاء، أهمها منزل رئيس الوزراء، ومنزل الكاهن الأعظم، كما عثر الأثريون في تلك المنطقة على تمثال نصفي للملكة نفرتيتي عام 1912، كما يوجد كوم النانا، وهي عبارة عن حظيرة يشار إليها عادة بظل الشمس، يعتقد المؤرخون إنها بُنيت كمعبد للشمس، بالإضافة إلى قصر "مارو – آتين"، وهو معبد الشمس الذي بُني لـ"كيا" زوجة إخناتون، وفيما بعد تغير اسمه إلى اسم ابنته "ميريتاتين".
يُحيط بالمدينة سور ضخم، يُعد أكبر مصدر للمعلومات عنها، فقد نُقشت عليه معلومات تصف تأسيس المدينة، وفي قلب المنحدرات الشرقية تختبئ مقبرة إخناتون الملكية، التي لم ينتهي منها سوى بناء مقبرة واحدة، ويبدو إنها بُنيت على عجل لحمل جثمانه، وإن كانت استخدمت مرتين فقط، حيث حملت جثمان إحدى زوجاته التي لم يُذكر أسمها، وجثمان ابنته "ميكاتتن"، بينما بُني في المنحدرات الشمالية والجنوبية من الوادي الملكي مقابر النبلاء.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية