يعتقد البعض أن اسم شبة جزيرة سيناء، أرض الفيروز، اكتسبته من تلك الجبال الغنية بجنوبها، تلك التلال التي حفر المصري القديم كهوفها وأبارها منذ العصر النيوليتي وخلال فترة البداري بحثًا عنه، فقد كشفت الحفريات الأثرية، التي قام بها عالم مصريات الإنجليزي السير وليام ماثيو فلندرز پتري، تلك المعسكرات التعدينية القديمة في جنوب سيناء، والتي يزينها معبد حتحور، الإلهة المصرية التي كانت مفضلة كحامية للمناطق الصحراوية.
"سرابيط الخادم".. تلك المنطقة التي تقع بها أقدم مستعمرات معدن الفيروز، سُميت بذلك الاسم لوجود عدد كبير من الكتل الصخرية داخل، والتي أُطلق على كل منها أسم "سربوط " أي الصخر القائم، في حين ارتبط بها اسم الخادم، وهي التماثيل المنتشرة داخل المعبد، والتى كانت تمثل الخدم بالنسبة لسكان جنوب سيناء، لذلك عُرف الموقع والمعبد باسم "سرابيط الخادم".
تأتي أهمية سرابيط الخادم فيما خلدته من نقوش وكتابات الصخرية في المناجم والاثار المخصصة للإلهة حتحور في المعبد عن حملات التعدين التي قام بها ملوك الدولة الوسطى، وعلى الرغم من أن اسم أمنمحات الأول، أول ملوك الأسرة الثانية عشرة، هو أقدم اسم تم العثور عليه في سرابيط الخادم، إلا أن العديد من التماثيل والأثار كانت ترتبط باسماء العديد من الملوك، علي رأسهم الملك سنفرو من الأسرة الرابعة، والملك منتوحتب الثالث ومنتوحتب الرابع من ملوك الأسرة الحادية عشر، بالإضافة إلأي نقش للملك سنوسرت الأول، ما يعني أن سرابيط الخادم شهدت انشطة مختلفة لاستخراج المعادن منذ الدولة القديمة.
تحتوي سرابيط الخادم علي ٣٨٧ نقشاً ينتمون للدولتين الوسطى والحديثة، بينهم حوالي ثمانية نقوش من عصر الدولة الوسطى، بالإضافة إلي 150 نقشًا تؤكد العديد من الحملات التعدينية خلال عصر المملكة الحديثة، خاصة بين عهدي الملكين أمنحتب الأول ورمسيس السادس، وقد أثبت المؤرخين أن تلك الأنشطة التعدينية لم تكن تخص منطقة سرابيط الخادم فقط، ولكنها تخص كل ما يُحيط بجبال وكهوف سرابيط الخادم أيضًا، بما في ذلك بئر نصب ووادي أبو جادة، كما أن النقوش لم تهتم بسرد تفاصيل تلك الحملات التعدينية ولكنها ايضًا رصدت المستوطنات التي كان يعيش داخلها العاملين في تلك المناجم، بالإضافة إلي مناطق معالجة المعادن ومناطق العبادة الصغيرة.
كما تحتوي سرابيط الخادم علي أكثر من ثلاثون نقشًا محفورًا في "الأبجدية السينائية"، وهو ما يُلقي الضوء علي تاريخ الأبجدية، ، والتي تم الكشف عنها في عام 1905، وتعود لعهد كل من تحتمس الثالث وحتشبسوت، ويطلق عليها البعض الأبجدية الكنعانية، لتأثرها ببعض الكتابات السامية على اعتبار أن سيناء كانت نقطة التقاء للقادمين من آسيا، وإن كان البعض يعتقد ان السبب في ذلك أن غالبية عمال المناجم كانوا أسري الحروب المصرية مع شعوب جنوب غرب آسيا، والذين كانوا يتحدثون اللغة السامية الشمالية الغربية، مثل الكنعانية التي كانت أسلافًا للفينيقيين والعبرية، وهو ما حاول عالم المصريات واللغويات البريطاني "ألان جاردنر" اثباته عام 1915، حينما قام بفك رموز ما يعرف بنظام الكتابة السينائية البدائية، وقد نشر الكاهن الأمريكي رومانوس فرانسوا بوتين من الجامعة الكاثوليكية الأمريكية العديد من المقالات حول تلك النقطة في مجلة هارفارد اللاهوتية، وذلك استنادًا إلى بعثة هارفارد إلى سيرابيط الخادم عام 1927، بالإضافة إلي البعثة المشتركة لجامعة هارفارد الكاثوليكية عام 1930.
هل هناك علاقة وطيدة بين سرابيط الخادم وتاريخ سيناء المقدس؟، هذا سؤال حاول الكثير من المؤرخين الاجابة علية، وهو ما شجع المؤرخة الثقافية البريطانية لينا دورينا جوانا إكنشتاين لوضع فرضية تؤكد أن سرابيط الخادم كان الموقع التاريخي لجبل سيناء، حيث تلقى موسى الوصايا العشر، وفي العام 1912، نشرت كتاباً بعنوان "تاريخ سيناء" الذي استندت فيه إلى عملها ورحتها الاستكشافية مع الزوجين هيلدا وفليندرز بيتري، وقامت من خلاله بتتبع الأحداث التاريخية في منطقة سيناء قبل وجود المصريين، والحقيقة ان تلك الفرضية جزء لا يستهان في حقيقة الموقع الذي يحتوي على معبد حتحور، حيث تعتقد أن الألهة حتحور، والتي كان يرمز لها بالبقرة، هي العجل الذهبي الذي بناه العبرانيون بينما كان موسى على قمة الجبل.
أما عن معبد حتحور سيدة الأعالي، فيقع على قمة جبل السرابيط، أي على إرتفاع حوالي 850 مترا من سطح الأرض، أي أنه يرتفع عن سطح البحر بأكثر من ١١٠٠ متر تقريبًا، ويقع في منطقة مستوية تشبه إلي حد كبير الهضاب، وتقع على بعد ٢٠٠٠ متر تقريبًا إلى الجنوب من مدينة أبو زنيمة، وتحديدًا في منطقة تُسمي الرملة، حيث توجد قرية السرابيط في جنوب سيناء، ويبلغ طول المعبد حوالي 80 مترًا، وعرضة حوالي 40 مترًا، يجاوره الكثير من مغارات الفيروز الملئية بالنقوش الاثرية القديمة، بالإضافة إلي بعض أدوات العمال.
يُعد معبد حتحور أحد المعابد لفريدة والمتميزة فى مصر القديمة، بل ومن أضخم الآثار الثابتة التي خلفها المصريون القدماء والمشيدة من الحجر في سيناء، ولكن ل وذو موقع متميز فوق قمة جبل السرابيط، بدء تشييده مطلع عصر الدولة الوسطى، وتحديدًا خلال فترة حكم الأسرة الثانية عشر، وقد تغيير شكل المعبد خلال الأسرات الحاكمة اللاحقة، فطيلة ما يقرب من ٨٠٠ عام عكف الملوك والملكات علي إضافة بصماتهم علي أركان المعبد، وذلك حتي عهد الملك رمسيس السادس أحد ملوك الأسرة العشرون.
عقب اكتشاف سرابيط الخادم، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر، كانت سرابيط الخادم ومعبد حتحور محط أنظار الرحالة والمستكشفين وعلماء الآثار، وكانت أول زيارة حقيقية تلك التي اكتشف فيها المستكشف وعالم الخرائط الألماني "كارستن نيبور" موقع سرابيط الخادم، وذلك في عام 1762، ويومها اعتقد خطأ أن كهف حتحور مجرد مقبرة لأحد الأفراد، وبعد ما يقرب من ثمانية عقود، وتحديدا خلال عام ١٨٤٥ قام عالم المصريات الألماني "كارل ريتشارد ليبسيوس" بزيارة الموقع ليعيد استكشافه من جديد، ليزور الموقع في عام ١٨٤٦ العديد من الاوروبيين علي رأسهم "Macdonald. C." الذي قام بحفائر غير منشورة، وقام باهداء العديد من أثاره إلي المتحف المصري، وفي عام ١٨٦٨ قامت بعثة إنجليزية بأول عملية مسح وتصوير للمنطقة، وفي عام ١٩٠٤ نشر عالم المصريات الفرنسي "ريموند وايل" العديد من لوحات المعبد، وفي نفس العام أرسل "صندوق استكشاف مصر" بعثة بإشراف "فلندرز بيتري" وتم نشر أعمالها في عام 1906، وبعد عقدين، وتحديدًا في عام ١٩٢٨ أرسلت جامعة هارفارد بعثة أخري لدراسة الموقع.
وخلال الفترة بين عامي ١٩٤٧ و1948 قام عالم الأثار الأمريكي "وليام فوكسويل أولبرايت" بحفر خمسة محاجر ومنجم اثناء المسح الأثري لسيناء، وفي عام ١٩٥٢ قام كل من عالمي المصريات البريطانيين "سير ألان جاردنر"، و"توماس إريك بيت"، بنشر النقوش الموجودة في منطقة سرابيط الخادم والمناجم المحيطة بها وإعطائها أرقام تسلسلية أصبحت منذ ذلك الوقت المرجع الأساسي للباحثين، قبل أن يترجمها عالم المصريات التشيكوسلوفاكي "ياروسلاف تشرني" في عام 1955، وخلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، من ١٩٦٧ حتي ١٩٨٢ ، قاموا بعمل حفائر في منطقة سرابيط الخادم، وحتي اليوم لم يتم نشر ما قاموا به من حفائر، وبعد استعادة سيناء، قام العالم المصري "علاء شاهين" باعداد رسالة ماجستير تناول فيها جانب من تاريخ معبد سرابيط الخادم خلال الدولة الوسطي، وأخيرًا خلال عامي ١٩٩٢ و1993 قامت بعثة من جامعة ليل الفرنسية بعمل مسح للمنطقة وترميم بعض المواقع تحت اشراف عالمي المصريات الفرنسيين "دومينيك فالبيل" و"تشارلز بونيه".
أما منازل القائمين علي عمليات التعدين والبناء والعاملين في منطقة سرابيط الخادم، فقد تم الكشف عن مجموعة من مساكنهم تشبه الأكواخ بُنيت من الحجر الرملي المحلي بطريقة بدائية، أغلبها مُتهدم ولكن يبدو من أطلالها أنها كانت دائرية الشكل، يتراوح قطرها ما بين 150 سنتيمتر إلي 2 متر مكعب، كما لوحظ بعض المنازل الأخر داخل أسوار المعبد كانت تُستخدم لإيواء من يسهر الليل بالقرب من المعبودة حتحور أملًا في الحصول علي حلم ينبئهم بمكان الفيروز في باطن الارض، وقد بُنيت أكواخ العاملين بالقرب من وادي "الخصيف" ليوفر له الحماية الطبيعية من جهة الجنوب، وحتي اليوم يصعب تحديد تاريخ محدد لبنائها.
المراجع:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية