أقدم الحرف التي عرفها الإنسان، شهدت ارتقاء الإنسان من البدائية المفرطة إلى التقدم والرقي، حتى أن الدارس لها يمكنه أن يفهم تطور الجنس البشري عبر العصور المختلفة، من خلال درجة دقة صناعتها، وزخرفتها.
"صناعة الفخار".. حرفة لازمت الإنسان، وتعود إلي عصر ما قبل الأسرات في مصر، وكان المصري القديم أول من اهتم بها، ووصل إلى درجة عالية فيها من الدقة والكمال، بداية من أواني الأطعمة وأدوات الزينة، حتى توابيت الموتى، لذا رفعوا صانع الفخار "الفخراني" إلى أرفع مكانة يمكن أن يصل إليها عامل بسيط، فقد صوروا الإله "خنوم" إله الخلق عند الفراعنة، وهو يجلس على عجلة الفخار ليشكل الإنسان.
"مصر هبة النيل".. بهذه الكلمات الثلاث لخص المؤرخ اليوناني "هيرودوت هاليكارناسيوس"، والذي عاش في القرن الخامس الميلادي، الكثير من الحقائق عن مصر، أهمها تلك الصناعة التي لم تكن لتُقام لولا وجوده، فقد ثُبت علميا أن الغرين الذي يأتي من أعالي الوادي في موسم الفيضان أجود أنواع الطين لصناعة الفخار.
قديما، كان المصريون ينتظرون موسم الفيضان بفارغ الصبر، وبمجرد وصول الطمي، يسارعون بتجميعه وتقديمه لصانعي الفخار، لتصنيع الأواني والمستلزمات المنزلية والكهنوتية، ثم يتم حرقها ليتغير لونها طبقا لنوع الطمي الذي صُنعت منه، فالرواسب الطينية تتحول إلي اللون البني أو الأحمر، ورواسب الهضاب الجيرية يتحول لونها إلى اللون القرنفلي أو الأحمر الخفيف، وإذا زادت عملية الحرق يختلف الون باختلاف قوة الحرارة، فتتحول إلى اللون السنجابي أو الرصاصي أو الأرجواني أو الرمادي الضارب إلى الخضرة، وللأسف بعد بناء السد العالي اختفت هذه الرواسب تماما.
تبدأ صناعة الفخار بتنقية الطين من الشوائب العالقة به، ثم يقوم العامل بطحنه جيدا بقدمه، يتم اضافة بعض التبن أو الروث المسحوق إذا كان الطمي دهنياً، ثم يبدأ في تشكيل الأواني، وما عثر عليه من أشكال في المقابر الفرعونية، يظهر لنا مدي التطور والتنوع في تشكيل "الطمي" عبر العصور، فكانت في البداية بسيطة تتناسب مع مطالب الحياة اليومية، فتشكلت على هيئة طواجن للطبخ وأواني للتخزين وأقداح ومغارف ذات المقابض الطويلة والقصيرة.
تجفيف الأواني الطينية تعد أهم خطوات صناعة الفخار، فإذا فشلت تلك العملية بالتعرض للهواء أو الحرارة وهو مازال رطبا، تلف وتشقق، خاصة إذا كان مصنوعا من طمي دقيق المسام، لذلك يضطرون لتجفيفه تدريجيا بطريقة طبيعية حتى يصبح مستعدا للحرق، وكان العامل يقوم بحرقها على الأرض ويشعل فيها النار، ثم يغطيها بروث الحيوانات ليحفظ الحرارة، ثم بدأ في بناء الأفران، التي تتكون من ثلاثة أجزاء، وهي بيت النار، وغرفة الرص، والمدخنة، وبعد خروج الأواني من الأفران يقوم بدهانها بطلاء يلتصق بها تماما، ولا ينفصل عنها، لأن نسبة انكماشه تتساوى مع نسبة انكماش الإناء نفسه.
ومن أغرب الأشكال التي عثر عليها في القبور الفرعونية، الأواني المزدوجة ذات البزبوز، والتي تشكلت على هيئة حيوانات وأسماك وطيور، ويبدو إنها كانت تصنع يدويا أو بطريقة القوالب، وإن كان علماء الآثار اختلفوا حول الفترة التي استخدم فيها المصري القديم الدولاب لصنع الأواني الفخارية، فقال البعض أن أول استخدام له كان لصنع الجرار الفرعوني الذي أنتجه المصنع الملكي في عهد الأسرة الأولي، وقال البعض الآخر أن بداية استخدامه يرجع إلى عهد "خع خموي" في الأسرة الثانية، هذا الدولاب كان عبارة عن فخدة مستديرة يوضع الطين عليها أثناء تشكيله، لا يزيد ارتفاعه عن 40 سم، وقرص لا يزيد ارتفاعه عن 35 سم، وكانت تدار باليد بمحور رأسي أو عمودي.
وعندما خضعت مصر للحكم البطلمي في النصف الأول من القرن الرابع، تأثرت صناعة الفخار بالفن الإغريقي، فقد كانوا أمهر الشعوب في استخدام الطينة الحمراء الناعمة، ممثلا في الطمي الأسواني، الذي يستخدم حتى الآن في منطقة مصر القديمة لإنتاج المنتجات الفخارية كالفازات، وهو أفضل أنواع الخامات التي تستخدم في أنتاج الفخار.
استخدم الإغريق في تشكيل أوانيهم الفخارية، دولاب يشبه كثيرا الدولاب الذي يستخدم في العصر الحديث، فكان عبارة عن عامود لفاف يرتكز على الأرض، يبلغ طوله 100 سنتيمتر تقريبا، يثبت عليه قرصان، العليا تستعمل في تشكيل الأواني، والسفلى توجد على بعد بسيط من نقطة الارتكاز الرئيسية، وهي تستخدم للتحكم في سرعة دوران القرصة الأولى، يبلغ قطرها ثلاثة أضعاف قطر القرص العلوي.
وبدأ الإغريق في بناء أفران مستديرة الشكل، مزوده بقناتين منفصلتين ومتصلتين، تُسمى "فرن التنورة"، كان يُحرق فيها المنتجات الفخارية خاصة "القلل"، وعادة ما كانوا يصنعوا الأواني الفخارية على شكل قدور لها مقابض على الجانبين، تنتهي برؤوس آدمية أو حيوانية، لها غطاء في وسطه نتوء خارجي كمقبض، كانت تستخدم في تخزين كافة السوائل من النبيذ والعطور والزيوت، كما عثر على كؤوس ذات مقبضين على الجانبين، كانت تقدم كجائزة للمنتصرين، بالإضافة إلى أواني لها أشكال آدمية وحيوانية وطيور، أما عن زخرفة المنتج، فيري البعض انه مماثل للعصر الفرعوني، ولكنهم تفردوا بالزخرفة البارزة.
وفي العصر الروماني، تميزت تلك الصناعة بثلاثة أنواع من المنتجات، الأول من طينة مستوردة، والثاني من طينة محلية يغلب عليه طابع الخشونة وعدم الدقة، فعرف بـ"الفخار الشعبي"، والنوع الثالث كان وسطا بين الأواني المستوردة والأواني الشعبية، فكان يصنع بطريقة الأواني المستوردة ولكن بطينة محلية، ورغم أن هذا النوع استمر في صناعته حتى العصر القبطي، إلا إنه لم يستطع أن يجاري جمال ودقة المصنوعات الأجنبية.
ومن الأشكال التي ظهرت في هذا العصر، "النافورة"، وهي أواني اسطوانية الشكل، يتراوح ارتفاعها ما بين 70 إلى 85 سنتيمتر، لها مقبضين، وقاعدة مدببة مسحوبة إلى أسفل على شكل قمع، ورقاب صغيرة بفوهات ضيقة، وأشكال على هيئة رؤوس نسائية، مزينة بزخارف بارزة تحدد تفاصيل الوجه، كما تميز هذا العصر بصناعة الأختام الفخارية، عبارة عن أشكال مستديرة والتي يزينها زخارف غائرة وبارزة على شكل حيوانات وطيور وزخارف نباتيه، كانت تستخدم لطبع هذه الوحدات الزخرفية على الأواني الفخارية قبل أن تحرق، وبهذه الطريقة توفر نوعين من الزخارف، بارزة ومحفورة.
أما في العصر القبطي، فاعتمد فن الفخار على الأشكال التي كانت موجودة في مصر الفرعونية، مع إضافة رموز تعبر عن المعتقد المسيحي كعنقود العنب، والصلبان، ليصبح الفخار القبطي فن له خصوصيته التي تميزه كأسلوب وسط بين الأساليب الأخرى، وأهم أنواع الفخار الذي عُثر عليه الفخار البني العادي، والأحمر الذي تحتوي طينته على مركبات الحديد التي تعطيه هذا اللون، والرمادي والسنجابي والبرتقالي المصفر اللون، التي تصنع من "طينة" لها لون رمادي مائل إلى السُمرة.
وقد عثر على بعض القوالب التي كانت تُستخدم في ذلك العصر قرب دير أبو مينا في منطقة مريوط بالصحراء الغربية، كانت مخصصة لصنع قنينات فخارية محفور عليها القديس "مينا" من جانب، ومن الجانب الآخر حفر أسمه، أما المنتجات المستديرة فكان الحرفيون وقتها يستخدمون الدولاب التقليدي الذي مازال يستخدم حتى الآن، ولم يقتصر الفخار القبطي على تخزين السوائل والحبوب والاستخدامات المنزلية فقط، وإنما استخدم أيضا كأحد العناصر المعمارية، فكان يستخدم في تشييد مباني الرهبان.
من أهم الأشكال التي انتشرت في العصر القبطي، صناعة الأطباق الكبيرة، والتي تُعرف حاليا بإسم "السرفيس"، وإن كان يوجد بها عدة فجوات تستخدم لوضع أنواع مختلفة من الطعام في طبق واحد، بالإضافة إلى "المسارج" الفخارية وهي أعمدة للنور كانت تستعمل في الإضاءة ليلا، والأختام الفخارية بزخارفها المقدسة، أما عن الزخارف الفخارية، فانتشر في ذلك العصر ثلاثة أنواع، الزخارف البارزة والمرسومة والمحزوزة.
أما في العصر الإسلامي، فقد اكتسبت صناعة الفخار في مصر صفات جديدة، ولعل ما سجله الرحالة الفارسي "ناصري خسرو قبادياني" في القرن الحادي عشر الميلادي يظهر ذلك، فقد قال "ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع، فهو لطيف وشفاف، ويصنعوا منه الكؤوس والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها "، كما تعتبر الكسرات الفخارية والخزفية التي عُثر عليها في أطلال مدينة الفسطاط، دليلا حيا على ذلك.
ويختلف العلماء في التصنيف الخزفي التاريخي لتلك الحقبة، فمنهم من اعتمد على الزمن، أو الأسلوب، أو النمط الزخرفي، لكن لا أحد يختلف على أن مدينة الفسطاط منحت شهرة واسعة للخزف المصري، والتي عُثر بين أطلالها على نماذج فنون الخزف من العصر القبطي وحتى القرن السادس عشر.
وكان يوجد في العصر الإسلامي نوعين من صناعة الفخار، نوع منه مخصص لطبقة الأعيان، يصنع من خامات جيدة ينتقيها أشهر الصناع، ونوع شعبي ينتج بالمواد المحلية الرخيصة، وهو النوع الأكثر انتشارا بين الناس، كما كان يوجد ثلاث أنواع من طرق التشكيل، طريقة التشكيل اليدوي وهي الطريقة البدائية، وطريقة الدولاب، وطريقة "الصب" التي كانت تستعمل في تشكيل التماثيل والأواني الرقيقة، لذلك تكون عجينتها سائلة.
قبل العصر الإسلامي كان الفخار يُحرق في "قمائن"، مربعة الشكل، لا تصل فيها النار مباشرة إلى الأواني، بل يكون بينهما عازل، أما الفرن الإسلامي فمستدير الشكل، يبني بالطوب الأحمر، وكان يرص فيه القطع الفخارية، حيث يتكون من ثلاثة أجزاء، بيت النار، وغرف الرص، والمدخنة، ولقد اشتهرت الفسطاط في العصري الطولوني والفاطمي بعدة منتجات فخارية منها الفخار الخزفي ذو البريق المعدني، والفخار الذي يصنع بالزخارف المحفورة، كما تميزت "طينة" الفسطاط بالنعومة والهشاشة والميل إلى اللون الأحمر.
في العصر المملوكي انتقلت الصناعة إلى القاهرة، وتميزت بتصنيع المسارج، التي كانت تصنع بجدارين، والقلل الفخارية بأشكال مختلفة وزخارف متنوعة، واهتموا بشبابيك القلل، وبرعوا في تزيينها بالكتابات الكوفية والعبارات الدينية وأبيات الشعر والأقوال المأثورة، وحرص بعضهم على كتابة أسماءهم على القلل منهم "يوسف القلال".
كما انتشرت الأختام المستديرة المزخرفة برسوم هندسية ونباتية وآدمية وطيور وحيوانات، حتى إنها كانت تستخدم كقوالب للكعك في الأعياد والمواسم، بالإضافة إلى أنواع مختلفة من لعب الأطفال منها التماثيل المجوفة للطيور والحيوانات، والصفارات والشخاليل التي مازالت توجد في الريف حتى الآن.
استمرت صناعة الفخار على هذا الحال البدائي ولم تشهد أي تقدم، حتى نهاية القرن الـ19، عندما أنشأ جونسون باشا مدير الورش الأميرية في ذلك الوقت مصنع الخزف في منطقة "فم الخليج"، مستخدما بعض الأفران للزجاج الملحي في إنتاج الترابيع القاشانية، لكن المصنع لم يستمر طويلا، وتوقف عن العمل، ثم قام "ماثيو" تاجر الخزف بالإسكندرية بإنشاء مصنعا آخر، بالاستعانة بالخزاف الفرنسي "كوتيه"، الذي استعان بدوره بالخزافين اليونانيين.
ومع بداية القرن العشرين، استمر إنشاء المصانع الخزفية بشكل فردي، ففي الثلاثينات أسست السيدة "هدي شعراوي" مصنعا للخزف بالقاهرة، أحيي النماذج المستوحاة من الفنون الإسلامية، بالإضافة إلى إنها أرسلت بعثات دراسية إلى أوروبا، وكان "محمود صابر" أول مبعوث، تعلم في مصنع "سيفر" بفرنسا، وعاد ليدرس الخزف في مدرسة الفنون التطبيقية، ثم أنشأ قسما خاصا بالخزف في مدرسة الصناعات الزخرفية ببولاق.
وخلال خمسينات القرن الماضي، قدمت كلية الفنون التطبيقية أجيالا من الفنانين الذين برعوا في استلهام التقاليد المتوارثة لفن الخزف، على رأسهم سعيد الصدر، حسن حشمت، عبد الغني الشال، محمد طه حسين، ومن الفنانين الغير دارسين بالأكاديمية محمد حسين هجرس، صفية حلمي حسين، اللذان أسسا مرسما حرا بحلوان كان بمثابة ملتقى لمحبي الفن والتراث، تعلم فيه الكثيرون ذلك الفن، أشهرهم محمد مندور، الذي يعتبر اليوم أهم المبدعين في الخزف المصري.
كان للجمعية الشعبية، والتي تعرف اليوم بالهيئة العامة لقصور الثقافة، عدد من المحاولات في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فافتتحت أقسام لتدريب الهواة على فن الفخار والخزف، ونجحت بالفعل في إقامة ملتقي للفخار السنوي بمحافظة قنا عام 1999 ميلادية، ولقد ساعدت دوراته على تطوير الحرفة، وعلى صنع ملتقي خصب بين المبدعين مما ساعد ذلك الفن على عدم الإندثار.
من وكالة الغوري انطلق أول موقع لإحياء وتطوير عدد من الحرف التقليدية المتوارثة، فتم إنشاء قسم للفخار عام، تطور كثيرًا حتي أصبح مركز صغير للخزف في مدينة الفسطاط الأثرية، تحت اشراف سعيد الصدر الذي مزج بين تلقائية الحرفيين وخبرات أكاديمية الفنون التطبيقية، وفي عام 1983 توسع هذا المركز وأضيف إليه مركز صب البرونز، وقام بإدارته النحات "محمد عثمان"، الذي أقام معرض دولي للخزف منذ عام 1992، وفي عام 1995 بدأت عمليات توسيع المركز خاصة بعد أن انتقل إلى مجمع الفنون، فضم مجموعة من الورش للإنتاج والتدريب، ومراسم لتجارب الخزافين، وقاعات متحفية، ومعارض للخزف.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية