"ليا مين غيرِك يا بلدي أنا ليا مين؟.. إحنا ياما أخدنا منّك.. فيها إيه لو اليوم نديكي؟".. هل تذكرون تلك العبارات التي جاءت علي لسان الشاب الجامعي محمود الذي أدي دوره الفنان وجدي العربي، وهو يتلقي ضربات "الكورباج" علي ظهره، في رائعة الكاتب المصري فاروق صبري "إحنا بتوع الأتوبيس"، والمأخوذة عن قصة حقيقية جاءت في كتاب "حوار خلف الأسوار" للكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي.
مثّل هذا المشهد السينمائي الذي أبدع في إخراجه حسين كمال أحد أهم مخرجي السينما التقليدية في مصر، علامة فارقة شكلت وجدان جيل كامل عن معاناة التعذيب، فتوهم أغلبنا أن قمة الإيذاء الذي يمكن أن يتعرض له الإنسان علي يد أخيه الإنسان مجرد ضربة سوط علي جسده الضعيف، وأن تلك الطريقة هي أبشع ما يمكن أن يتعرض له الإنسان من تعذيب.
من "إحنا بتوع الأتوبيس" إلي "الكرنك" مرورا لـ"وراء الشمس" حتي "البرىء"، وقبلهم "زوار الفجر"، وصولاً إلي "عمارة يعقوبيان"، لم تظهر لنا غرف التعذيب سوي "تجمعات دموية وسحجات وثقوب غائرة وعظام مشروخة".. تلك في العادة الآثار التي يفصح عنها الطب الشرعي في تقاريره عن أغلب حوادث التعذيب.
لذلك لم تخرج السينما المصرية كشكل من أشكال نقل الواقع المؤلم للتعذيب، عن تلك الرؤية القاصرة السطحية، اللهم بعض المشاهد المعتادة التي نري من خلالها التعذيب بالجلد والكهرباء وخلع الأظافر والمياه الساخنة وإطفاء السجائر علي الأجساد العارية، وصلت في بعض الأحيان إلي هتك العرض والاغتصاب، وفي قليل منها يصل إلي القتل.
«التعذيب دليل إفترا الإنسان علي أخيه الإنسان».. تلك الجملة كانت الشرارة الأولي لأحد أساتذة التاريخ المصريينن والذي رأي بعينه كيف يخشي الإنسان ظلم الإنسان، خاصة إذا ما كان حاكمًا قاسيا كصدام حسين في العراق قبل الغزو الأمريكي، فقام بدراسة اساليب التخويف والتعذيب.
كانت الخطوة الثانية بعد دراسة التعذيب والاغتيال السياسي، فقرر الدكتور محمد عبد الوهاب، أستاذ التاريخ والباحث في مجالات التعذيب والاغتيال السياسي، أن يقوم بتجميع كل وسائل التعذيب في مكان واحد أطلق عليه "متحف التعذيب"، ليعرض من خلاله توثيقا وتأريخاً لجميع وسائل التعذيب من بدء الخليقة الي محاكم التفتيش الي محارق النازية لمجازر الصهاينة لسجن القلعة وتنظيم داعش.
متحف التعذيب الذي يعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط وافريقيا، وربما يكون الأكبر في العالم يضم 750 وسيلة تعذيب تضم مجموعات مختلفة من أدوات التعذيب التي استخدمها الإنسان بهدف انتزاع اعترافات من أشخاص أو لقتل من يخالفهم الرأي، علي رأسها بالطبع الكرابيج لجلد الأجساد، والسواطير لقطع الأيادي والأقدام، وأدوات كي وحرق.
فكرة المتحف الذي أسسه الباحث الدكتور محمد عبد الوهاب في مجال الاغتيال السياسي وأساليب التعذيب تقوم علي كشف هذه الأساليب للرأي العام، لذلك قام بتجميع أدواته من جميع أنحاء العالم، كما طالع المئات من الكتب التاريخية القديمة بحثا عن أشكال لتلك الأدوات ليقوم بتصنيع شبيه لكل ما اندثر منها، مبينا أنه تقدم بطلب رسمي للمهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء السابق، لتأسيس المتحف بسجن قلعة صلاح الدين.
عدسات كاميرا "الإيجيبشيان جيوجرافيك" انطلقت في رحلة خاصة جدا إلي المريوطية بالهرم حيث يقبع متحف التعذيب، لترصد عن قرب تاريخ من "الأيام السوداء علي بشر كانوا يرون الموت في كل لحظة"، ليكون دليلا وشاهدا على تلك العقول البشرية المريضة، التي لا يسعدها سوى منظر الدم والاشلاء المتطايرة، ولا يشغلها إلا كيفية صنع وسيلة تعذيب جديدة، لكي تستمتع تلك الطبيعة السادية والنزعة الشرسة بداخلهم.
بمجرد أن تطأ قدماك مدخل المتحف ستشعر برائحة الدم، وستعيش وكأنك تسمع أصوات المعذبين وصراخهم، ليس لأن أول ما سيستقبلك شعار المتحف الذي حرص المؤرخ المصري علي وضعه في المدخل، وليوحي بلونه الأحمر الدامي وجمجمته البشرية المشوهة، والبلطتين اللتين تقفان علي جانبيها، والسلسلة الحديدية التي تحيط بها، بالحالة التي يجب أن يراها عليه الزائر داخل متحف التعذيب.
"ستشاهدون بأعينكم افتراء الإنسان عبر العصور.. جمدوا قلوبكم"، بدأ الدكتور محمد عبد الوهاب، كلامه معنا ليستهل الزيارة بشكل من أشكال الإثارة، التي بدأت بالفعل بمجرد أن انفتح باب المتحف الضخم كاشفا عن سرداب ضيق لا نراه إلا في أفلام الرعب الهوليودية، مدخل من ضيقه أجبرنا علي الولوج إلي داخل المتحف سيرا فرادي وعلي الأجناب.
"الفيرجين.. أو العذراء".. كانت أول آلة للتعذيب يمكن أن تراها بمجرد دخولك "بوابة جهنم"، كما يحلو لصاحبها أن يطلق عليها، وهي الأداة التي كانت تستخدمها محاكم التفتيش في أوروبا العصور الوسطى، ولم يكن الهدف منها التعذيب، بقدر ما كان الهدف منها الموت بالتعذيب، فهي عبارة عن صندوق ممتلئ بالمسامير الغليظة الحادة، والتي تخترق كل جزء جسد الإنسان المراد قتله.
"عن طريق العذراء كانوا يتعمدون قتل الإنسان بالهلع".. قالها الدكتور محمد بامتعاض، وهو يخبرني أنهم لم يكتفوا بقتل الإنسان، وإنما كانوا يتركون الجسد الميت داخل الآلة حتى يتحول إلى هيكل عظمي، وعندما يرغبون بقتل شخص آخر، ينزعون الهيكل في وجوده، ليتلذذوا بصدمته العصبية قبل موته.
بجانب العذراء توجد مجموعة متنوعة من أدوات الجلد، ولعل أشهرها بالنسبة لنا، الكرباج الذي رأيناه مجسدا في فيلم "آلام المسيح"، ولعلنا نتذكر مشهد الجلادين ينزلون بالسوط على ظهر الفنان "جيمس كافيزل"، ثم ينزعونه عنه انتزاعًا، فقد كانوا قديما يستخدمون مخالب الأسود في نهايات أسواط الجلد ليمزع الجسد، وبجانب تلك المجموعة من السياط وضع رمز لقتل المسلمين عبارة عن صورة الشخص الذي حرق القرآن بعد سقوط الأندلس.
"الجلاد يدرس كل جزء في جسد الرجل والمرأة.. ليبدع في كيفية تعذيبه"... قالها وهو يشير إلى لوحة توضح طريقة ومراحل تعذيب المرأة في معتقلات محاكم التفتيش، قائلا إن القساوسة كانوا يغتصبونها أولا، قبل أن توضع على "الحمار الإسباني"، وهو عبارة عن كتلة خشبية حادة الزاوية، كانوا يجلسون المرأة عليها، ويربطون بقدميها أثقالا حديدية، لتجذبها لأسفل فينشطر جسدها من أسفلها حتى القفص الصدري، والأخريات إما يقومون بقطع أثدائهن بمقصات غليظة ليموتن بالصدمة العصبية، وإما أن يرقدوهن على سرير مائل، ويصبوا في أفواههن الزيت المغلي أو الرصاص المصهور أو الجير الحي، وهو موت مقرون بالتعذيب القاتل.
وبجوار لوحة التعذيب يتواجد مجموعة من كراسي محاكم التفتيش، أحدها مليء بالمسامير، وكانوا يشعلون النار حتى تلتهب تلك المسامير، ثم يأتون بالمرأة مجردة من ملابسها، ويجلسونها عليها، فتنغرز المسامير في جسدها ويتركونها حتي تجف، ثم ينتزعونها من على الكرسي، والآخر يوجد في ظهره ثلاثة سيوف، وفي المقعد سكين دوار ينشر الجالس عليه، وبجانبهم صورة توضح المشهد بأكمله.
"هذه الآلة شبعت الكلاب من أمعاء البشر"... قالها وهو يشير إلى آلة في منتصفها مجموعة من السكاكين الدوارة، تقابل منطقة البطن لتمزق الأمعاء، فقد كانت تتطاير يمين ويسار، وكانت الكلاب تتغذى على هذه الأمعاء.
رائحة الدم والشواء والعفن تتصاعد لتزكم الأنوف، وصوت الصراخ تصم الأذان، هذا ما شعرت به، في هذا الجو الكئيب، فالرؤوس المقطوعة والأطراف الممزقة التي تملأ غرف المتحف، رغم كونها مجرد مجسمات، إلا أنه بمجرد رؤيتها، تشعر وكأنها تستغيث وتصرخ طالبة الرحمة.
"تخيل أن تكون واقفا ويتساقط عليك ديدان الموتي"... فتلك الأقفاص الحديدية، المعلقة في السقف، كانوا يحبسون فيها الأشخاص حتى الموت، ووقتها يتركونهم ليتحللوا فيها، وتتساقط منها الديدان على رؤوس الموجودين معهم في الزنزانة.
"الشيطان دائما يبتكر".. عبارة من ثلاثة كلمات اختصر بها سيكولوجية الإنسان الذي يخترع ويبتكر ويقوم بهذا التعذيب الممنهج، جسديًا ونفسيا.
في تلك الأثناء وصلنا إلى غرفة "الخازوق"، الذي لم نعرفه في تاريخنا إلا عندما استخدمته الحملة الفرنسية لقتل "سليمان الحلبي" سنة 1800، وتلك الوسيلة لها مدخلين عند المرأة ومدخل واحد عند الرجل، ولها مخرجين إما من الفم فيموت في نفس اللحظة، وفي هذه الحالة يكون الشخص محظوظا، أو يخرج من الكتف الأيمن، ووقتها لا يموت في نفس اللحظة، إلا إذا تناول شربة ماء، فكانوا إمعانا في القسوة يحرمونه من الماء ليظل ساعات طويلة يتألم، وقد يستمر في الحياة في تلك الوضعية ليومين كاملين، وعلي طرف الغرفة وضعت مجسم لسليمان الحلبي المخوزق، ورؤوس معلقة وأطراف مقطعة، وكلبشات بكل أشكالها، لليد وللرقبة، وآخر ثلاثي يقيد الرقبة واليدين والقدمين، وبلاطي ومناشير.
"المخلعة.. لتعذيب الأطفال".. خصصوا المخلعة للملائكة الصغار مما يدل علي البربرية فيهمن وهي عبارة عن سرير من الخشب يقيد عليها الصبية والصبايا الصغار، وفي منتصفها مجموعة من المسامير الغليظة، لا تفعل شيئا سوى أنها تنتزع لحم ظهورهم.
"الجاروف".. هو عبارة عن عامود يقيد عليه الشخص، وخلف رقبته مسمار غليظ يدور ببطء حتى يخترق الرقبة من الخلف للأمام، وبجواره تابوت محاكم التفتيش الممتلئ بالمسامير، والتي كان الجلادون يسحبون الرجال والنساء ويلقوهم بداخله، ويضغطون عليهم لتخترق خلاياهم وتمزقهم تمزيقا.
"ارسم نخلة على الحيط.. وأطلع هات البلح".. مقولة مشهورة داخل أغلب سجون العالم، وهي تعتبر إهانة لشخص المسجون، أما في محاكم التفتيش فكانوا يضعون لهم حصانا من الدمية، ويطلبون من المسجون ركوبه والجري بسرعة.
"عجلة كاثرين" وهي عبارة عن عجلتين دوارتين كبيرتي الحجم، كانوا يسوقون إليها الشخص ويربطونه في أعلى إحداهما، وبمجرد أن تدور العجلتان ينفصل الرأس، ثم يتطاير جسمه إلى أشلاء صغيرة، وكأنهم يعدون اللحم المفروم كطعام للكلاب، ولذا كان يطلق عليها عجلة السحق.
خصص المؤرخ إحدي الغرف للتعذيب في إيران، والتي كان جلادوها يعذبون المساجين باغتصاب زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وأمهاتهم أمام أعينهم، ثم يتركون لهم ملابسهم الداخلية، وبجوارهم زجاجة الخمر.
"الاغتصاب ليس للفتيات فقط".. هناك رجال تغتصب أيضا.. الرجل يعاني نفسيًا من الانتهاك الجسدي مثل المرأة".. قالها ونحن ندخل قسما جديدا يجسد التعذيب النفسي بالاغتصاب، وهذا ما أظهرته الصور الموجودة على الحائط، فها هو رجل من المجرمين القدامي يعاقب على تهمة فض غشاء بكارة سمارة بنت سالم ريحان، وبجوارها صورة أخرى لرجل يدعى موريس الفرنساوي يعاقب لاغتصابه صبيا.
فجأة شعرت وكأني في "الحضرة"، واسترجعت نغمات "ياختي عليها وياختي عليها.. ماجات رجليها ماجات رجليها"، وحمدت الله أنني لست من النوع الذي يرتدي أي قطع ذهبية، فبلا أي مقدمات وأنا أتتبع خطاي بمتحف التعذيب، وجدت نفسي في معقل "ريا وسكينة"، اللتين اشتهرتا بقتل النساء لسرقتهن، واللتين رغم قسوتهما وإعدامهما لأول مرة في تاريخ النساء بمصر، إلا أنهما ظهرتا أكثر لطفاً ورحمة مما رأيت.
"بتخاف من الفئران.. تخيل إنك تكون جزءا من مصيدة فئران"، نعم أعترف أنني أخشى الفئران حين تمر بجواري، ولا أتخيل نفسي أساق إلى معتقل، ويضعون على بطني مصيدة بها فئران، وأعتقد أنني سأموت وقتها بصدمة عصبية قبل أن تقوم الفئران بمهمتها، فهم لا يكتفون بوضع الفئران داخل المصيدة، وإنما يضعون فوقها "عرسة"، بهدف تخويف الفئران، فتحاول الهروب فلا تجد إلا نهش أمعاء الشخص المثبت في المصيدة، ليختبئوا داخل بطنه.
الكيان الصهيوني كان له جناح آخر، تصدره "الدولاب الإسرائيلي"، وهو لا يستخدم للقتل وإنما لحبس الأشخاص الذين يرغبون في إخراج اعترافات منهم، فهو دولاب ضيق يكاد يسع شخصا نحيفا، وبالتالي فأي إنسان يقضي عدة ساعات بداخل هذه المقبرة، يكون على استعداد بالاعتراف بأي شيء للخلاص منه.
"حتي المعيز استخدموها في التعذيب".. هكذا قال الدكتور عبد الوهاب ساخرًا، وهي طريق اعتبرها شيطنة في الابتكار، فمن يتخيل أن يستخدم الماعز في تعذيب البشر، شيطنة التعذيب الممنهج جعلتهم يستخدمون حراشيف لسان هذا الكائن المسالم، وعشقه للحس الموالح، فكانوا يرشون على الأقدام المقيدة ملحا للطعام، فيشمها الماعز ويستمر بلحسها حتى يصل لعظام الجسد.
"المنجانيق".. في نهاية المتحف ترى مجسم لأول منجانيق، الذي قذف "سيدنا إبراهيم" إلى النار، والحجر الذي قتل به قابيل هابيل، والمقصلة التي اشتهرت بها الثورة الفرنسية، وآلة التعذيب بالتنقيط، مهمتها تنقيط مياه مغلية على رأس الشخص المقيد ليصل الى مرحلة الهيستريا.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية