لم أكن أدري بماذا كنت أفكر حينما قررت السفر إلي مصر؟ فأنا مجرد سيدة أمريكية، تبلغ من العمر 47 عاماً، متزوجة ولدي طفلين، هل جُننت؟، كان هذا أول سؤال وجهته إلي نفسي حينما نظرت إلي المرآة، فأنا لا أتحدث اللغة العربية، وكل ما اعرفة مجرد مقتطفات عن التاريخ المصري، درستها منذ عشرون عاما في صفوف التاريخ في الجامعة.
رغم كل ما سبق، إلا أن معرفتي ببعض الطلاب الجامعيين في مصر، والذين أتواصل معهم منذ شهور طويلة، شجعتني علي تحقيق حُلم زيارة أرض الفراعين، زيارة توقعتها منذ البداية مغامرة، وفي الثلاثون من أغسطس حطت الطائرة أرض مطار القاهرة، وعلي بابه وجدت طلبتي الذين أعدهم أبناء لم أنجبهم في انتظاري، ما اثلج صدري، وأزال الخوف من قلبي، فانطلقت معهم لتبدأ رحلتي إلي قاهرة المُعز.
أول ملاحظة لفتت انتباهي حينما وطئت أرض مطار القاهرة، فبمجرد أن نزلت من طائرة الخطوط الجوية الامارتية، صُدمت من الهيئة التي بدا عليها مبني المطار، فما شاهدته يؤكد أنه واحد من أنظف مطارات العالم دون مبالغة، كما أنه يمتاز بالهدوء والصمت والانسيابية، ما أصابني بالدهشة، فكيف لمدينة مثل القاهرة بها أكثر من عشرة ملايين مواطن، رغم ذلك لا يوجد به الكثير من الناس، لحظتها تذكرت ما حدث للجنية المصري، وما أدي إلية من إرتفاع للأسعار.
أنهيت الإجراءات الامنية في وقت مثالي لم اتوقعة، ثم ذهبت إلي الباب الرئيسي، ليلفت نظري أمر أخر لم يكن في الحُسبان، فلا حواجز أمنية للدخول إلي القاهرة، كُنت أعتقد إنني ساقف في صف طويل أمام أحد تلك الحواجز الأمنية التي أسمع عنها، وبوابة إلكترونية لفحص الحقائب، ولكنني لم أجد هذا، فجأة وجدت نفسي خارج مبني المطار.
علي باب المطار وقفت أبحث عن طلابي المصريين، فقد كانت الساحة ضخمة جداً، تسلل الارتباك إلي عقلي بعض الشيء، إزداد حدة عندما وجدت هاتفي الجوال لا يعمل، ولا توجد أي طريقة للتواصل مع طلابي وأصدقائي، ولا أدري كيف سأذهب إلي الفندق الذي سأعيش به أيامي القادمة، اطمئن قلبي قليلاً حينما وجدت سيدة مصرية ودودة تستفسر عن سبب قلقي، بل ومنحتني هاتفها الشخصي لأتواصل مع أصدقائي.
لم تتركني السيدة المصرية إلا بعد أن تمكن أحد طلابي وأصدقائي من العثور علي، كانت بداية رائعة بالتعرف عن قرب علي مواطني تلك الدولة العريقة، ذهبت وأصدقائي إلي أحد فنادق مصر الجديدة، كانت مصر تستعد للاحتفال بعيد الأضحي، لذلك حظيت بإستقبال بالغ الحفاوة داخل الفندق، الذي يمتاز ببوابة خارجية تبعد عن المبني الرئيسي بما يقرب من ميل كامل، لذلك تم فحص سيارتي أمنياً بواسطة أفراد أمن، بحوزتهم كلاب ألمانية الجنس مدربة، لم أكن في تلك اللحظة أعلم ما الذي ينتظرني خلف تلك البوابات المكتظة برجال الأمن.
داخل الفندق لم تكن الصورة بتلك الحالة علي ابواب الحديقة، بمجرد أن وطأت أقدامي البهو استقبلنا العاملين بمشروع التفاح الطازج مرحباً بوصولنا سالمين، تلك كانت تجربة مختلفة نوعا ما، فقد تعودنا استقبال الفنادق الأمريكية والأوروبية بكأس من الشمبانيا، وبمجرد انتهاء اجراءات التسجيل بدأت متعتي الشخصية، فقد فوجئت بطلابي الذين تواصلت معهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإسكايب، يعدون لي حفل استقبال، وتهنئة بوصولي الأول إلي مصر.
في الساعة العاشرة من أول ليلة لي في القاهرة، قرر طلابي أن ننتهز فرصة استعدادات المصريين بعيد الأضحي، وأنه علينا ان نسهر في أحد المتنزهات القريبة من القندق، والذي تذكرت اسمة الان، فندق كونكورد السلام، وبالفعل تحركنا إلي منطقة تسمي "الكوربة" القديمة، ورغم عناء الرحلة لساعات طويلة بلا نوم، إلا إنني شعرت بالمتعة الحقيقية في هذا اليوم، فقد ذهبنا بسيارة "حسن" الصغيرة، وكنا ثمانية أفراد، جلست في المقعد الأمامي وبجانبي "علي"، في حين حشر الخمسة الأخرين أجسادهم في المقعد الخلفي بطريقة بهلوانية مضحكة، وعلي خلفية موسيقي الراديو الرائعة، راح طلابي يحكوا لي عن تاريخ كل مبني نمر به في الطريق.
كانت الأجواء رائعة بكل ما تحملة الكلمة من معني، كانت الشوارع مليئة بالأضواء، مزدحمة بالناس، الباعة الجائلون بعرباتهم يتنقلون هنا وهناك، والشباب والفتيات يسيرون متشابكي الأيدي، الجميع يستمتع بأجواء ليل القاهرة الساحر، ورغم تلك الحيوية في شوارع مصر الجديدة، إلا إن الملاحظ إنها تفتقد إلي مظاهر البزخ التي تتمتع بها شوارع المدن الأمريكية، كما في ميامي أو نيويورك أو حتي تلك الولاية التي جئت منها، ولاية فلوريدا.
خليط من الحداثة وعراقة الأصل، هذه كانت ملاحظتي الأولي لجولتي من فندق "كونكورد السلام" إلي منطقة "الكوربة"، شوارع غير ممهدة وصخور في طريق السيارات، وعلي جانبي الطريق حُطام مباني تعود إلي عصور وقرون سابقة، وإلي حقبة الإحتلال الإنجليزي، وبجانبها مباني حديثة، زجاجية شاهقة، والتي تظهر وبشكل كوميدي إلي جوارها سيارة "كارو" يجرها حمار بائس، وإلي جوارنا تسير سيارات مختلفة، ما بين سيارات قديمة تعود إلي حقبة الثمانينات، وأخري مرسيدس "بنز" حديثة.
"هنا الفقير والغني يمكنهم أن يستمتعوا بأجواء العيد".. كانت تلك أول عبارة نطقت بها تعليقا علي ما شاهدته من أجواء، فالجميع يتجول في الشارع ويحتفل بالعيد، وبعد جولة سريعة بين المقاهي الشعبية، دخلنا أحد مطاعم "الشاورما" الشهيرة، مطعم يعمل حتي الصباح، وبين اللحم والحمص والفلافل الشهي، والحديث اللطيف عن التاريخ والثقافة المصرية الاصيلة، أحسسن إنني إنتقلت إلي عالم أخر.
لقد اعادني طلابي لأيام شبابي، الموسيقي التي كنت أسمعها، حديثهم الحماسي عن تغيير العالم، وطريقة تفكيرهم، ومبادراتهم الاجتماعية، وطريقة حياتهم، والتي لاحظت إنهم يستمدونها من القرآن الكريم، فقد ذكروا إحدي أياته عندما سألتهم، فقالوا أن كتابهم يقول: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل"، هكذا لاحظت أنهم يستمدون تعاملاتهم وعلاقاتهم من القرآن الكريم.
لي آن آن لافي
الرئيس التنفيذي للخدمات الأكاديمية العالمية للعلوم
أستاذ عبر الإنترنت للدراسات متعددة الثقافات والتنوع
جامعة فلوريدا الأمريكية
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية