نهر النيل.. أصل الحضارة المصرية

يحتفل الشعب المصري في أغسطس من كل عام بعيد وفاء النيل، والمقصود بـ "وفاء النيل" هو أن نهر النيل وفي للمصريين بالخير، قدم له الطمي والمياه، لذا قدسوا النيل وجعلوا له احتفالا كبيرا في شهر بؤونة أو أغسطس، وهو الشهر الذي يأتي فيه الفيضان محملا بالطمي والماء، وكانوا يلقون في قاع النهر دومية من الخشب في حفل عظيم يتقدمه الملك وكبار رجال الدولة، دليلا منهم على العرفان بالجميل لهذا النهر العظيم.

 

أحد أهم الأساطير التي ارتبطت بعيد وفاء النيل، أن المصريين القدماء كانوا  يقدمون "الإله حعبي"، إله النيل، في عيده فتاة جميلة، يتم تزيينها وإلقاؤها فى النيل كقربان له، فتتزوج الفتاة بالإله "حعبي" في العالم الآخر، وفي إحدى السنين لم يبق من الفتيات سوى بنت الملك الجميلة، فحزن الملك حزنًا شديدًا على ابنته، ولكن خادمتها قامت باخفائها، بل وصنعت عروسة من الخشب تشبهها، وفي الحفل ألقتها فى النيل دون أن يتحقق أحد من الأمر، وبعد ذلك أعادتها إلى الملك الذي أصابه الحزن الشديد والمرض على فراق ابنته.

ورغم أن الأسطورة تؤكد علي انه جرت العادة على إلقاء عروسة خشبية إلى إله الفيضان كل عام، إلا أنه لا يوجد نص صريح في التاريخ يروي أن المصري القديم كان يقدم قربانا بشريا احتفالا بوفاء النيل، ويعتقد أنها أسطورة نسجها خيال المبدع للمصريين القدماء تقديرا منه لمكانة النيل، ورغم ذلك عاشت تلك الأسطورة في خيال ووجدان المصريين، وتناولها الأدباء والكتاب والسينما، وما زالت تتردد حتى الآن كواقع.

 

كان لنهر النيل دورًا عظيمًا في استقرار المصري القديم على ضفافه وعمله بالزراعة، حيث أصبح قادرا على إنتاج قوت يومه، ثم انطلق إلى ميادين العلم والمعرفة والتقدم الهائل، لذلك كان دورًا مهما في بناء هذه الحضارة العظيمة، وبناء الأهرامات والمعابد الشامخة وبقائها حتى اليوم، فلولا النيل لكانت مصر صحراء بلا نبات ولا ماء ولا استقرار، فهذا النهضة العظيم جعل لمصر دورة زراعية كاملة، وحول الأرض السوداء إلى أرض خضراء مثمرة.

وقد قدر القدماء المصريين نهر النيل بعدما أدركوا أهميته، لذلك قدسوا فيضانه وجعلوا له إله، وتخيلوه على هيئة رجل ذو جسد قوى، وله صدر بارز وبطن ضخمه كرمز لإخصابه، لذا سميت مصر "تاوي" لأن النيل قسمها إلى أرض الشمال وأرض الجنوب، فكان من أهم ألقاب الملك المصري " نب تاوى" وتعني سيد الأرضين الشمال والجنوب.

 

اهتمت الحضارة المصرية القديمة بالحديث عن النيل، فهناك العديد من النقوش والرسوم المصورة والقطع الأثرية التي تقدسه، الكثير منها موجودة بالمتحف المصري، أهم تلك القطع "أوستراكا"، والتي نُقش عليها المعبود "حعبي"، وتمثال الملك خفرع الشهير الموجود عليه صورة "سما تاوي"، ومعناه موحد الأرضيين ويقصد به النيل، إلى جانب المراكب التي كانت تستخدم للصيد والحرب والسفر ونقل الحجارة وغيرها، فقد كان نهر النيل عاملا مهما في الحياة المصرية كوسيلة للنقل والترحال والتبادل الثقافي والحضاري بين مصر والدول الأخرى.

ويرجع الفضل لنهر النيل والشمس والنبات في عقيدة البعث بعد الموت لدى المصري القديم، حيث شاهد النيل يفيض ويغيض ثم يفيض من جديد، والنبات ينمو ثم يموت ثم ينمو من جديد، والشمس تُشرق ثم تُغرب ثم تُشرق من جديد، فأدرك المصري القديم بالبعث ما بعد الموت فكان سببا مهما فى تشكيل وترسيخ العقيدة لديه.

 

وقد اعتمد المصريين القدماء على النيل في حساب السنة الشمسية، وبدأوها مع توافق شروق نجم الشعري اليمنية مع ظهور الفيضان، والشروق هنا يعني ظهور ذلك النجم في الأفق الشرقي مع الشمس، حيث قسموا السنة ثلاثة فصول وقسموا الفصل أربعة أشهر، وأطلقوا علي الفصول اسماء، الفيضان، البذر، الإنماء، والحصاد، وكان الشهر يتكون من ثلاثين يومًا، والسنة 360 يومًا، وتمت إضافة 5 أيام هي أيام النسئ، وهي الأيام التي يتواجد فيها الأعياد الإلهية الرئيسية الخمسة.

علي الرغم من اعتماد المصريين في جميع نواحي البلاد على النيل، إلا أنهم جهلوا منابعه، فرددوا أنه آت من السماء، كما اعتقدوا أنه نتيجة سقوط دموع إيزيس عندما بكت فقدان زوجها أوزوريس، لذا كانوا يقدمون له القرابين في وقت الجفاف، وذلك حتى يعود عليهم بالفيضان مثلما جاء في لوحة المجاعة في جزيرة سهيل بأسوان، وهي لوحة سجلت في العصر البطلمي، وتتحدث عن القحط الذي حل بمصر، وكيف أن المصري القديم قدم للإله "حعبي" القرابين، حتى ينعم عليه بالاستقرار والخير والنماء.

علي أبو دشيش خبير الآثار المصرية

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية



إقراء ايضا