سقف خشبي وفناء بلا سقف.. بلا زخارف ولا لوحات خطية يعلوه شريط من الشرفات المبنية بالطوب الاحمر، تعلوها مئذنة من الطوب اللبن، محط رحال رحالة الباحثين عن التاريخ، ذكره بن بطوطه المؤرخ الرحال الذي ولد بطنجه في المغرب في كتابه "تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" فقال عنه: " ثم سافرت إلى مدينة الأقصر وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل، وهي صغيرة حسنة، وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري، وعليه زاوية ".
ذلك العابد الذي ذكره ابن بطوطه لم يكن سوي السيد يوسف بن عبد الرحيم بن يوسف بن عيسي الزاهد، وهو شريف حسيني، ينتهي نسبه إلي الإمام الحسين سبط النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يُكني بأبي الحجاج، ثم يُضاف إلي كُنيته الأقصري، نسبة إلي مدينة الأقصر بصعيد مصر حيث مستقره الأخير، ولد في أوائل القرن السادس الهجري في مدينة بغداد، تعلم علي ايدي أكبر علماء الدين والتصوف، علي رأس هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أبو النجيب السهروردي، والسيد أحمد الرفاعي، ما أهله للإلتحاق بالمدرسة النظامية، ليزامل الإمام شهاب الدين السهروردي، ليترك مهنة صناعة الغزل والحياكة ويتفرغ لوعظ والتذكير.
خرج أبو الحجاج من بغداد ولم يبلغ الأربعين من عمره إلي مكه، أمضي فيها سنة، مات خلالها أحد أبنائه ليُدفن بالمعلاه "مقابر مكة"، وبعد انتهاء العام اتجه إلي مصر، وبصحبته بعض عرب جهينة وعسير، حيث نزل في بادئ الأمر في شرق الدلتا لبضعة أيام، ثم اتجه بعد ذلك إلي الجنوب، حيث وصل إلي أسيوط ومنها إلي جرجا ثم قوص وأخيرًا إلي بلدة الأقصرين، وكان ذلك في أواخر حكم صلاح الدين الايوبي علي مصر، وقد أذاع أمره بين الناس لما امتاز به من التقوي والزهد والورع، وناهي خبره إلي سلطان مصر في ذلك، لذا انتقل إلي مدينة الأسكندريةمحط أنظار الكثير من كبار العلماء والزهاد والمتصوفة من المشرق والمغرب، لينهل من علم عبد الرازق الجزولي، قبل أن يعود إلي الاقصر من جديد.
مسجد أبي الحجاح الأقصري
لا يخفى على الجميع من اسمه أين يقع.. نعم يقع في مدينة المائة باب.. مدينة الشمس المليئة بالتاريخ، يقع في الأقصر على الجانب الشمالي الشرقي من معبد الأقصر، فعقب وفاة أبو الحجاج الأقصري في عام 642 هجرية عن عمر ناهز التسعين، وذلك في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، ليُدفن بضريحه القائم فوق معبد الأقصر، وقد تم بناء مسجدًا له في موقع دفنه بعد موته بحوالي 16 سنة، وتحديدًا في عام 658 هجرية، 1286 ميلادية، وذلك على الجانب الشمالي الشرقي لمعبد الأقصر، ويعود انشائه إلى العصر الأيوبي، لكن تشكيله المعماري يشابه التراث المعماري الفاطمي، وتشبه مأذنته المبنية بالطوب اللبن والتي ترجع الى عصر أبي الحجاج نفسه، مآذن الصعيد القديمة ذات الطراز الفاطمي، ويبلغ ارتفاعه ما يقرب من 14 مترا و15 سنتيميتر.
أعيد بناء المسجد في القرن التاسع عشر، ثم تم ترميمه في أوائل القرن العشرين، المثير في هذا المسجد بما يضمه من ضريح إن أرضه كانت طوال عصورها كانت موقعًا للعبادة، ففيها معبد أمون المصري القديم، كما ضمت كنيسة مسيحية، ثم علا ذلك مسجد أبي الحجاج، وفي النصف الثاني من القرن العشرين أقامت وزارة الأوقاف مسجدًا جديدًا بجانب المسجد والضريح والقديم، علي أن أقدم أجزاء المسجد القديم المئذنة القديمة، والتي ترجع إلي تاريخ وفاة أبي الحجاج وهي تتكون من ثلاثة طوابق، الأول عبارة عن مكعبين، أما الدور الثاني والثالث فهما علي شكل اسطوانة تستدق كلما اتجهتا إلي أعلي وتنتهي بطاقية مقببة، وبالطابق الثالث مجموعة من الفتحات مصفوفة في صفين، والمئذنة مبنية بالطوب اللبن ومقوي الجزء المكعب فيها بميدات خشبية، ويشبه طراز المئذنة مآذن الصعيد في العصر الفاطمي، مثل مئذنة مسجد قوص ومئذنة مسجد إسنا ومسجد الجيوشي بالقاهرة.
يتكون المسجد من مساحة صغيرة مربعة، مغطاة بسقف خشبى، يبلغ ارتفاعه 12 متراً، ويخلو من الزخارف الهندسية والنباتية واللوحات الخطية المعروفة في العمارة الإسلامية، ويعلوه شريط من الشرفات المبنية بالطوب الأحمر، وفي أعلاها مجموعة من النوافذ والفتحات، والجزء السفلي المربع مقوى بأعمدة خشبية، ثم أضيفت إليه مأذنة أخرى روعي فيها نفس التراث المعماري الذى زاد المسجد جمالا ولم يعتبرها الأثريون شاذة عن البناء ومن أهم محتويات المسجد، القبة التي تغطى الضريح، وهى مكونة من قاعدة غير منتظمة الأبعاد، وتدرج حتى تصل إلى الشكل الدائرى للقبة.
لم يبق المسجد على حالته التي بني عليها، وفي سنة 2009 انتهت أعمال ترميم في المسجد استغرقت عامين تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار، وبلغت تكلفتها سبعة ملايين جنيه مصري، وشملت العمارة الجديدة توسعة ساحة الصلاة وتدعيم القبة، وتغيير الأسقف، بعد أن تعرض المسجد لحريق في يونيو 2007، وأثناء ذلك الترميم كُشف عن جدران المعبد التي كانت مطلية بدهانات تغطى معالم الأثر، وعند إزالتها ظهرت أعمدة وأعتاب عليها كتابات مصرية قديمة ترجع إلى عصر رمسيس الثاني، وكأن النار جائت لتكون في تلك المرة مصدر بناء لا هدم، ومصدر إظهار للجمال لا لطمس الهوية كعادتها، لتظهر تاريخا يختبئ اسفل طلاء كنز اثري بمدينة الشمس، الأقصر تلك الأرض المقدسة.
المصادر:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية