لم تكن الحضارة المصرية مجرد حضارة عابرة، أو إحدي الحضارات التي وجدت علي مر التاريخ،فقد أثبتت طيلة آلاف السنين إنها حضارة متفردة، حضارة بدأ عند نشأتها التاريخ نفسه، فكأنت أول شيء في كل شيء، حتي في علوم الفلك ورصد النجوم والكواكب، أثبتت البرديات والجداريات أن مصر كان لها السبق في تأصيل ذلك العالم منذ آلاف السنين، حينما قرر القدماء المصريين دراسة الكثير من النجوم، في محاولة منهم لمعرفة الزمن.
مؤخرًا أظهرت الكثير من الكشوف الأثرية أن المصريون القدماء عرفوا علم حساب الفلك، لذا تمكنوا من معرفة السنين والشهور والأيام والساعات، كما أنهم قاموا بدراسة علم الكواكب والنجوم وغيرها، ما يشير إلى براعتهم في معرفة علوم الفضاء والفلك قبل غيرهم بآلاف السنين، وما يؤكد علي ذلك اكتشافهم لبعض الظواهر الفلكية مثل كسوف الشمس، كما اعتمدوا النظام الشمسي المتعارف علية، وقاموا بتقسيم السنة إلى ثلاثة فصول، كل فصل يتألف من أربعة أشهر, وقد أطلقوا على الأول الفيضان أو "اخت"، والثاني فصل بذر الحبوب، أو "برت" وتعني انزياح الماء من الاراضي, والثالث فصل فصل الحصاد، أو "شمو، وتعني شح المياه, بل واستطاعوا ان يتعرفوا عن الكواكب الأخرى، كعطارد, الزهرة, المريخ, المشتري, زحل، كما استطاعوا رصد حركة بعض النجوم والاجرام السماوية، وتحديد ابراجها.
أهم ما توصل إليه المصريون القدماء كان بابتكارهم للساعة الشمسية للتعرف علي أوقات اليوم، وقد أظهرت البرديات المصرية القديمة كيف أن المصريون قد عرفوا وسائل قياس الزمن، فكان لديهم ساعات الليل، وأخرى للنهار، وفي عهد الملك "أمنحتب الثالث"، خلال الفترة من عامي 1391 قبل الميلاد حتي 1353 قبل الميلاد، ظهرت أقدم وسائل قياس ساعات الليل في التاريخ، وهي الساعة المائية، والتي عثر عليها في معبد الكرنك بالأقصر، وهي على شكل إناء من الحجر، به ثقب صغير بالقرب من القاعدة، نُقشت علي سطحه الخارجي العديد من المشاهد الفلكية، في حين تم تقسيم السطح الداخلي بخطوط أفقية تحدد المستوى الذي وصلت إليه المياه في شكل ساعة، بالإضافة إلي تقسيمات رأسية تحدد فترات كل شهر من السنة.
المؤرخ البلجيكي جورج ألفريد ليون سارتون، في كتابة "تاريخ العلم"، أكد أن القدماء المصريين لاحظوا أن النجوم موزعة بشكل غير متساوي، وانها تكون أبراج ذات اشكال معينة، كما ان القدماء المصريين كانوا أول من يقسم منطقة واسعة على خط الإستواء الى ستة وثلاثين قسما، يشمل كل منها أسطح النجوم والمجموعات، أو الأبراج واجزاءها، ما مكنهم من رصد ظهوره كل عشرة أيام متعاقبة، من خلال مجموعة من الـ"ديكانات" أو مجموعة النجوم، ومن هنا سميت كل مجموعة من هذه النجوم ديكان، ما مكن الكثير من الدارسين والباحثين الغربيين في العصور الوسطي حول العالم من الإطلاع علي تلك العلوم، ما كون حالة من العشق أو الهوس بمصر القديمة، وهو ما يُعرف بـ"Egyptomania"، وهذا ما أكده المؤرخ الإيطالي ماسيميليانو فرانشي، في كتابة "الفلك في مصر القديمة".
أكثر ما لفت نظر علماء المصريات حول العالم أنهم علي الرغم من عدم العثور علي أي نصوص مصرية خاصة بعلم الفلك، إلا أن الكثير من الوثائق تذكر بعض المعلومات الفلكية بشكل غير مباشر، مثل النقوش في المعابد والتوابيت وأغطيتها، خاصة في الدولة القديمة والوسطي، فالوثائق الأكثر قدمًا تبين أشكالًا بسيطة وبدائية للديكانات، أما الوثائق الأحدث لنهائة الألفية الثالثة قبل الميلاد فإنها توضح استخدام نظام متكامل لحساب ساعات الليل علي مدار العام، وفي عصر الدولة الحديثة، ظهرت الساعات النجمية في المقابر، وهي عبارة عن رسوم توضيحية للسماء خلال الليل والنهار، كما تُظهر أيضًا الكثير من الإرشادات والتعليمات لعمل الساعات الشمسية، وبجوارها تم الكشف عن بعض الاغراض والاجهزة الفلكية.
طبقًا للإكتشافات الأثرية تأكد أن المصريين حاولوا في بادئ الأمر حساب الزمن بواسطة القمر، ولكنهم اكتشفوا أن التقويم الشمسي كان أسهل وأكثر دقة لهم، خاصة وأن فيضان نهر النيل كان يرتبط إرتباطًا وثيقًا بالتقويم الشمسي، وقد توصلوا إلي أن السنة تساوي اثني عشر شهرًا، وكل شهر عبارة عن ثلاثة دياكين، كما أضافوا إلى سنتهم خمسة أيام اعتبروها أعيادًا، ما يعني أن دور القدماء المصريين في علم الفلك كان في بادئ الأمر ينحصر في التقاويم لمعرفة فيضان النيل، وتحديد أيام السنة التي يكون فيها الجو شديد الحرارة، ويتم تحديدها من خلال نجم الشعرى "Spdt"، والذي كان يختفي بدءًا من شهر مايو ولمدة 70 يومًا، قبل أن يعاود الظهور من جديد في الافق يوم 18 يوليو تقريبًا، وهو التوقيت الذي كان يفيد فيه النيل بوصول "حابي".
الحقيقة أن الدافع لإهتمام القدماء المصريين بعلوم الفلك والأجرام السماوية كان دينيًا في المقام الأول، فقد كان للشمس دورًا مهمًا لذا أطلقوا علية اسم الإله "رع"، وتم تصويرها وهي محموله على قارب وتسبح في شو"، أي الفضاء، واعتقدوا أنها تنزل إلي "دات"، أو العالم السفلي ليحل الظلام، قبل أن يظهر نائبة "تحوت" أو القمر ليحل محلة طيلة الليل، فقد كانت البداية مع "نون" أو الخواء، وهو كتلة لم تتشكل بعد، وبداخله بذور الحياة الكامنة، ويولد منه "رع" إله بطريقة مجهولة، فيعلن نفسه حاكمًا للكون، ويرسل أشعته الذهبية إلى "جب" رب الأرض، وكان المصريون يعتقدون أن الأرض مستطيلة، وأن نهر النيل يجري في وسطه، وينبع من نهر أعظم يجري حولها، وتسبح فوقه نجوم الآلهة، وإن السماء ترتكز على جبال بأركان الكون الأربعة، وتتدلى منها تلك النجوم.
أما عن أهم ادوات الرصد عند قدماء المصريين، فقد ابتكروا ادوات بسيطه للرصد الفلكي وتحديد مواقع الاجرام السماوية, وكانت اهم آله اعتمدوا عليها عباره عن اداتين تستخدم من قبل راصدين اثنين, وهي طريقة تُسمي طريقة الماركت، والاداة الأولى عبارة عن غصن بلح قصير وسميك من أحد طرفيه حيث يوجد في الطرف السميك شق رفيع، والثانيه عباره عن مسطره ذات شاقول، وهو خيط رفيع مربوط في اسفله قطعه من الرصاص، حتى يشد الخيط ليصبح عاموديا, وتحمل بشكل أفقي، ثم يقوم الراصد الأول بإتجاة الشمال، في حين يجلس الراصد الثاني بإتجاه الجنوب, وتحدد الساعات عندما يجتاز النجم الخيط العامودي في المسطره الأفقيه، بحيث تمر بالقلب أو بالعين اليسرى أو اليمنى أو في أي جزء من جسم الراصد.
وقد كان كان المصريون القدماء من أوائل الثقافات التي تقسم الأيام إلى أجزاء متساوية متفق عليها بشكل عام، وذلك باستخدام أجهزة ضبط الوقت المبكر مثل الساعات الشمسية وميقات الظل والشاقول، كما استخدمت المسلات من خلال قراءة ظلها، ومنذ الدولة الحديثة شغلت المناظر الفلكية مساحات كبيرة من أسقف العديد من المعابد ومقابر الملوك والأفراد، وهي مناظر تمثل المجموعات النجمية، والأجرام السماوية، والكواكب، والأشهر القمرية، وساعات الليل والنهار، ولعل أشهرها تلك التي تضمها مقبرة "سيتي الأول" في وادي الملوك، ومعبد "رعمسيس الثاني" في غرب طيبة، ومقبرة "سننموت" مهندس الملكة "حتشبسوت"، أما الأبراج السماوية فتظهر في معابد إسنا، دندرة، إدفو، كوم أمبو، وفيلة، وغيرها من المعابد.
وقد جاء في "متون الأهرام" كيف أن المصريين القدماء تمكنوا من رصد النجوم، والتي كانت تنقسم إلى نوعين، أهمها النجوم التي لا تفنى، وأطلقوا عليها اسم "إخمو سك"، أي التي تكون ظاهرة بشكل دائم في السماء، وقد استطاع المصريون منذ الدولة الوسطى تمييز خمسة من هذه النجوم، والكواكب السيارة تصويرها كربة تبحر في قوارب عبر السماء، وهم "المُشترى" وأطلقوا علية حور الذي يحدد القطرين، و"المرِيخ" وهو "حور الأفق"، أو "حور الأحمر"، و"عَطارد" وهو معبود ارتبط بالإله "ست"، و"زُحل" وهو "حور" أو "ثور السماء"، وأخيرًا "الزهرة" وهو "الذي يعبر"، أو "رب الصباح"، وقد ظهرت تلك الكواكب في العديد من المعابد، ففي مقابر "رعمسيس" الخامس، والسابع، والتاسع، توجد مجموعة مكونة من أربعة عشر كائناً جالسين يمثلون نجوماً كانت تسمح بمرور الزمن من خلال النجوم عبر السماء.
المصادر:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية