منذ ما يقرب من خمسة قرون مضت، وتحديدًا في عام 1538 ميلادية، قرر جمال الدين شاهين، إهداء والده الشيخ الصالح العارف بالله شاهين الخلوتى، شيخ الطريقة الخلوتية، مسجدًا يُخلد ذكراه بعد مماته، لذا اختار له موقعًا متميزًا فوق هضبة المقطم ليُطل بمأذنته العالقة علي القاهرة من أعلي جباله، تلك الهضبة التي لجأ إليها والده وبنى له فيها معبدًا وحفر له فيها قبرًا، فكانت ملجأ الزهاد والمتصوفون.
لم يبق من المسجد سوي أطلال لمأذنه وقبة وبعض الجدران، أشبه ما يكون بقلعه منه بمسجد بُني منذ خمسة قرون، يشبه إلي حد كبير بتلك القلاع التي وصفت في حكايات ألف ليلة وليلة، أو بإحدي المعابد المصرية القديمة المنحوته داخل الجبال والهضاب، الوصول إليه يُعد مغامرة محفوفة بالمخاطر، فالوصول إليه يتطلب الوصول أولًا إلي مقابر "سيدى عمر"، وهناك يوجد ممر يصعد بك إلى أعلى سفح الجبل.
بمجرد أن تطأ بقدميك أرض مسجد شاهين الخلوتي، ستدرك إنك أمام طرازًا معماريًا فريدًا لمسجد تم نحته داخل الجبل، وبنفس الطريقة التي تم بها انشاء معبد حتشبسوت، وبداخله ستجد العديد من الفتحات والمغارات، والتي يطلق عليها اسم خلوات، كما يضم ضريحًا وثلاثة قبور، أكبرتلك القبور للشيخ شاهين الخلوتي، والآخران لجمال الدين شاهين وابنه محمد شاهين، وهناك قبه يمكن الدخول إليها من خلال باب يعلوه قطعة رخام كُتب عليها اسم صاحبه، وكان يمتلك أربعة أعمدة من الحجر، وقبلته مشغولة بقطع من الرخام الملون والصدف، ويُعتقد أن المسجد كان يوجد به بئر للمياة.
"وادي المستضعفين".. هكذا كان يُطلق علي تلك المنطقة التي بُني عليها مسجد الشيخ شاهين الخلوتي، فطبقًا للمؤرخين المسلمين يُعد جبل المقطم من المناطق المقدسة، وكان طبيعيا أن يلجأ الزهاد والمتصوفون إلى جبل المقطم يتخذون من سفحه مقاما ومن أوديته مناما بعد أن عرفوا تقديس الديانات السماوية السابقة على الإسلام له، وقد حرص كبار الرحالة الذين وفدوا إلي مصر على زيارة ضريح الشيخ شاهين الخلوتى، برغم المشقة التى يتكبدها من يريد الوصول إليه، فقد كان عليه الصعود إلى أعلى جبل المقطم فى ممر غير معبد أو ممهد، وكثير الانحدار.
واليوم، لم يتبق من المسجد سوي تلك المأذنة الشامخة، تقابلها قبة الضريح، يربطهما بعض الجدران المجاورة لحافة هضبة المقطم، لذا فالمسجد علي الرغم من بعض الإهتمام والرعاية التي توليها وزارتي الأوقاف والآثار، حيث تم تصنيف المسجد ضمن الآثار الإسلامية، ويحمل الرقم 212، إلا أنه مُهدد بالإنهيار الكامل من أعلي الجبل ليسقط فوق الأهالي الذين يسكنون القبور.
لكن السؤال الأهم الأن، من هو الشيخ شاهين الخلوتي، ولما اتخذ من هضبة المقطم ملجأ لخلوته، ولد شاهين الخلوتي في مدينة "تبريز" الإيرانية، وذلك في القرن التاسع الهجري، وبعد ان اشتد عوده وأصبح شابًا جاء إلي مصر في عهد السلطان قايتباى، والذي بدوره قام بشرائه ليُصبح أحد مماليك السلطان، لم تكن شخصية شاهين الخلوتي المنعزلة تقبل بتلك الحياة كمملوك، فقد كان يحب مجالسة الصالحين، لذا حفظ القرآن والكثير من الأحاديث، تجرأ يومًا ليطلب من السلطان قايتباي أن يعتقه، ويتركه ليتفرغ للعبادة، ليتفرغ للدراسة علي يد العديد من المشايخ، علي رأسهم الشيخ العارف بالله عمر الروشنى، وصاحب ولّى الله محمد الدمرداش بالعباسية، وأصبح من أعز رفقائه ومريديه.
وقد اختار شاهين الخلوتي هضبة المقطم لما وصل إليه من أمر قدسيتها عند الله عز وجل، فالكثير من الروايات التاريخية تشير إلى قدسية هضبة المقطم، فالبعض يصفه بأنه غراس الجنة، والبعض الأخر اتخذه سكنًا أبديًا لأجسادهم بعد الموت، لذا وصفه البعض بصفة "جبل الموتى"، وأطلق علية العامة اسم "قرافة المصريين"، حتى أن والي مصر عمرو بن العاص، أوصى بأن يدفن فيه، ظنا منه أن من يدفن في سفح جبل المقطم ييكون نصيبه الجنة في العالم الآخر.
ولقدسية هضبة المقطم روايتان مختلفتان، أهمها تلك الرواية التي جاءت علي لسان الإمام الليث بن سعد عن المقوقس عظيم القبط، وذلك عندما طلب من عمرو بن العاص أن يبيعه جبل المقطم، مقابل 70 ألف دينار، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي رد عليه قائلاً: سله لما أعطاك ما أعطاك فيه وهو لا يزرع ولا يستنبط منه ماء؟، وعندما جاءه الجواب إن أقباط مصر وجدوا في الكتب القديمة أن في سفحه تدفن غراس الجنة، قال إننا لا نعرف غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاجعلها مقبرة لمن مات قبلك من المسلمين.
أما عن السبب الذي من أجلة اكتسب جبل المقطم تلك القدسية، فيروي شمس الدين محمد ابن الزيات، في كتابه "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة"، حيث يقول إن جبل المقطم كان أكثر الجبال أنهارًا وأشجارًا ونباتًا، وفي الليلة التي كلم الله فيها موسى أوحى إلى الجبال أني مكلم نبيا من أنبيائي على جبل منكم، فتطاول كل جبل إلا جبل الطور تواضع وتصاغر إجلال لله، فأوحى الله إلى الجبال أن تجود بما عندها فجاد جبل المقطم بجميع ما عليه من الشجر والنبات والمياه، ولما كان اللقاء بين موسى وربه على جبل الطور، فقال الله للمقطم "لأعوضنك في سفحك غراس أهل الجنة".
المصادر:
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية