كان واحدًا من بين سبعة آخرين، ليبقي "مقياس الروضة" شاهدا على اهتمام المصريين منذ قديم الأزل بنهر النيل، حيث يعد أحد أقدم الآثار الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص، فقد أنشئ في عهد الخليفة المتوكل بالعصر العباسي سنة 247هـ و861م، واشرف على إنشائه أحمد الفرغاني الذي يتصدر تمثاله مدخله.
"مقياس النيل".. ذلك الأثر الذي حاز علي اهتمام المصريين طوال 1100 عام، وبالرغم من أنه كان يحدد مصير كل المصريين طوال هذه القرون بتحديد الرقعة الزراعية والضرائب المفروضة إلا أنه يعاني الآن من الإهمال والتجاهل، خاصة بعدما توقف العمل به منذ بناء السد العالي، وتحول إلى مزار سياحي يزوره السائحون الأجانب فقط.
"الإيجيبشيان جيوجرافيك".. توجهت إلى جزيرة منيل الروضة حيث يوجد "المقياس"، والوسيلة الوحيدة للوصول إليه من البر الشرقي كوبري المانسترلي باشا الخشبي للمشاة والذي يطلق عليه البعض "كوبري العشاق" لطرازه الإسلامي الفريد من نوعه وطوله الذي لا يتعدى 70 متراً ويتميز بقبته الإسلامية، وبعد عبوره اتجهنا جنوبا لمسافة 200 متر مرورا بمسجد "قايتباي" وقصر "المانسترلي" ومسجد "حسن المانسترلي" ومتحف "أم كلثوم".
"2 جنية فقط".. هي سعر تذكرة دخول أي زائر مصري إلي مقياس النيل، 2 جنيه أو حتي 6 جنيهات التي يدفعها السائح الأجنبي لا تكفي علي الإطلاق لتكون ميزانية لصيانة والاهتمام بذلك الأثر الأقدم في التاريخ الإسلامي المصري، وبعد أن حصلنا علي تذكرة الدخول اصطدمنا بأول أثر إسلامي عبارة عن تمثال جرانيتي عالم الرياضيات الاوزباكستاني احمد الفرغاني باني مقياس النيل.
وعلي يسار التمثال يوجد مسجد حسن المانسترلي الأثري، وهو ما تبقي من مجموعة بنائية قام بإنشائها حسن فؤاد المانسترلي باشا في عام 1851م/ 1267هجرية الذي يرجع موطنه إلى مانستر بمقدونيا، وخلفه علي بعد 50 متراً يقف مقياس النيل بشكله المخروطي علي حافة الجزيرة منذ أكثر من 11 قرناً.
استقبلني محمد صالح مفتش آثار منيل الروضة ودليلي في رحلتي إلي أعماق المقياس قائلا "الهدف من بناء مقياس النيل كان معرفة منسوب المياه الحقيقي باستمرار، لأنه كان الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تحديد مستوى المعيشة الحقيقي للمزارعين، وبالتالي يمكن عن طريقه حساب عملية فرض الضرائب العادلة على المصريين".
تقدمني مفتش الآثار إلي ناحية المقياس، ونزلنا إلي بوابتها بضع درجات، وفتح بابها الأحمر ليتسلل إلي أنوفنا رائحة المياه علي جدرانه العتيقة.
"المشهد الداخلي للمقياس"
قاعة مربعه أطوال أضلاعها 8 أمتار، يتوسطها بئر مربعة مشيدة بالأحجار طولها 6 أمتار وعمقها 12 متراً يتوسطها عامود طويل مصنوع من الرخام ويبلغ طوله 19 ذراعاً، وهو أكبر من المنسوب الطبيعي لنهر النيل والذي يجب ألا يزيد أو يقل عن 16 ذراعاً، فإذا قل عن 16 ذراعاً يحدث جفاف يقضي علي المحصول ويقل الإنتاج فتمنع الضريبة في هذا العام، وإذا زاد عن 16 ذراعاً يحدث فيضان يقضي علي المحصول فتمنع الضريبة.
مفتش الآثار أوضح لي أن العالم الأوزباكستاني أحمد الفرغاني عند إنشائه للمقياس راعي الطبيعة المحيطة به علي شاطئ النهر فقام بتصميم قاعدة البئر التي يرتكز عليها عامود القياس من شجر الجميز لقدرتها علي امتصاص الاهتزازات الأرضية وعدم التأثر بالمياه.
كاميرا "الإيجيبشيان جيوجرافيك" نزلت في رحلة وصفها المفتش بالأولي من نوعها إلي قاع البئر لترصد عن قرب عملية قياس مياه النيل، وللوصل إلي أسفل البئر كان لزاما علينا أن ننزل علي "سلم حجري" بلا مسند يلتصق بجدار البئر، وحذرني المفتش بضرورة عدم النظر إلي أسفل البئر والالتزام بالسير بجوار الجدار.
وبمجرد فتح باب البئر لاحظنا صندوقاً خشبياً يستقر فوق عامود المقياس، وانحنيت قليلا أتحسسه وأرى الكلمات المنقوشة عليه، فقال مفتش الآثار إن هذا الصندوق الخشبي مستحدث على المقياس، مبينا أنه لم يكن موجودا منذ نشأة المكان، ولكنه عبارة عن أحد الترميمات التي استوجبتها حدوث ميل لعامود القياس في العصر العثماني، وكتب عليه نفس الآية الكريمة وبنفس الخط الكوفي حتى تتلاءم مع المكان.
البئر مكونة من ثلاثة مستويات مختلفة وتحتاج إلي 37 درجة سلم للنزول إلي القاع، ولكل مستوي فتحة خاصة تصل البئر بمياه النيل، أي أن البئر بها 3 فتحات فوق بعضها البعض، وفي المستوي الأول يوجد أربع عقود مدببة تشبه الشبابيك، وهي من أقدم العقود التي بنيت في مصر، وهي عبارة عن أحمال للحائط وظيفتهم امتصاص صدمة المياه المندفعة إلى المقياس، كما لاحظنا بعض النقوش على الحجر الطولي لهذا المربع مكتوباً عليها الآية رقم 32 من سورة إبراهيم، التي جاء فيها قوله تعالي "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ".
وفي المستوي الثاني الذي بدأ يضيق في المساحة، ويوجد به الفتحة الثانية وهي تكاد تكون مثل الأولى من حيث الاتساع ولكن لا يوجد حولها أي من العقود، ثم بعدها المستوي الثالث الدائري والأصغر ويحتاج إلي 8 درجات صغيرة للنزول إليه ويوجد به القاعدة المصنوعة من شجر الجميز.
للوهلة الأولي لنزولك لقاع البئر تلاحظ آثار مياه النيل، التي تسربت بفعل الرطوبة والتجاهل إلي أرضية وجدران بئر المقياس، مما أدي إلي حدوث بعض التهالك علي الأخشاب بالمقياس، وقد أكد مفتش الآثار أن هذه التسريبات المائية إلي قاع البئر ناتجة من ارتفاع مياه النيل في الصيف وإنها تحتاج إلي بعض الوقت لتجف.
لقد كانت القاعدة تختلف كهيكل معماري عن باقي المقياس فهو يأخذ الشكل الدائري، وقد تم إنشاؤه بهذا الشكل لأن المصمم الهندسي اكتشف أن مياه النهر عندما تدخل إلى المقياس تكون مندفعة بقوة قد تؤدي إلي انكسار العامود أو تؤثر على الجدران، وكان الشكل الدائري هو الأنسب لامتصاص هذه القوة.
وأسفل القاع نظرت إلي أعلي البئر، ورأيت القبة المخروطية المزخرفة برسوم وألوان زاهية، مصممة علي الطراز العثماني، فأوضح مفتش الآثار أن حوائط وقبة المقياس كانت أيضا من الترميمات التي نالت من المكان، وأنه أنشئ في عصر المماليك، ثم انهار وقامت لجنة حفظ الآثار بتجديده في عهد الملك فاروق سنة 1937، حيث تم وضع هذه النقوش النباتية لأن اجتماع النبات مع المياه يوحي بالحياة، بالإضافة إلى أن الشكل المخروطي للقبة هو طراز عثماني بينما الشكل الأصلي له مطموس الملامح من التاريخ ولا يوجد له أثر في الكتب الأثرية.
وعلي جدران المقياس خارج البئر توجد أربع لوحات معلقة على الحائط، مكتوبا عليها نفس الآية الكريمة الموجودة على الأحجار وبنفس الخط الكوفي، وعلمت من مفتش الآثار أن هذه اللوحات توجد منذ الحملة الفرنسية على مصر، وأنها ذكرت في كتاب وصف مصر، موضحا أنها ليست التدخل الفرنسي الوحيد على المكان لأنهم أظهروا اهتماما واضحا في تطهير قاع المقياس من تراكمات الطمي الكثيرة.
وبعد أن توقف العمل بالمقياس وتحويله إلي أثر تاريخي منذ إنشاء السد العالي، قامت الحكومة المصرية ببناء مقياس حجري علي الشط علي بعد حوالي 50 مترا من المقياس القديم وتابع لوزارة الري، لينتهي بذلك دور أقدم مقياس في التاريخ ليكون شاهدا على مر العصور علي ثورة نهر هائج لم يهدأ ولم يتوقف إلا مع انتهاء بناء السد العالي، لتغلق الأبواب الداخلية والخارجية في وجه المياه للأبد.
محمد صالح طالب الحكومة بالاهتمام بشكل أكبر بثاني أهم أثر إسلامي في مصر، موضحا أن المسئولين يهتمون بالآثار الفرعونية أكثر من اهتمامهم بالآثار الإسلامية، حتي إنهم يتجاهلونها في البرامج السياحية الداخلية والخارجية، موضحا أهمية أن يكون المقياس مزارا سياحيا لطلبة المدارس والجامعات ليتعرفوا علي تاريخ علاقتنا بالنهر.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية