تقع أغلب قصص الحب والغرام الغربية في نطاق الأساطير والفنتازيا، وهو ما نهتم به في عالمنا الشرقي متجاهلين واقعنا الفعلي، حيث أكدت الآثار المكتشفة حديثا أن أقدم قصص الحب والغرام، لأشخاص حقيقيين، شهدتها أرض الفراعين وبابل، تاركين على الأحجار مشاهد من العشق الجميل.
مقبرة الغرام
في صيف عام 1966، قدمت لنا صحراء سقارة كشفا عظيما، لمغني اسمة "كاهاي" يعمل في بلاط أحد الفراعنة، إلا أنه أفصح عن طبيعة الحب في ذلك الزمن الجميل، وعاش كاهاي في منطقة سقارة بمحافظة الجيزة قبل 4400 عام، أي في عهد الأسرة الخامسة، والدولة المصرية القديمة، والتي حكمت خلال الفترة من عام 2495 حتي عام 2345 قبل الميلاد.
طيلة 50 عاما لم يفهم الباحثون ما وجدوه على جدران مقبرة المغني "كاهاي"، رغم أن كل وثائقه وصورة تم تدوينها في كتاب متخصص عام 1971، ربما لأن الباحثين قاموا بتصوير جدرانه ولوحاته بالصور الفوتوغرافية القديمة، البيضاء والسوداء، حتي تمكن علماء مركز علم المصريات التابع لجامعة "ماكواري" الاسترالية من إزاحة الستار عن أهم اللوحات بتلك المقبرة، بمجرد أن استخدموا الألوان التقريبية.
"انظري إلى سيدتي ومحبوبتي.. فمن عينيك استمد قوتي.. انظر إلى عيناي.. ستعرف كم أحبك"... تلك كانت المفاجأة التي وجدها الفريق العلمي الاسترالي، أقدم قصة حب، بل أجمل قصة حب، أجمل مشهد يمكن أن تجده في أي أثر عالمي, يسطر ويكتب في كتب التاريخ، خرج من هنا، من مصر، ومنذ 4400 عام مضت.
كان الفتي "كاهاي"، ذلك العاشق المُتيم، يُحب زوجته الكاهنة "ميريتيتيس" كثيرا، أراد أن يُخلد قصة عشقه بذاك المشهد الأخاذ، عبارتين متبادلتين، كثيراً ما تبادلاها فيما بينهم، أحبك يا سيدتي، أحبك يا سيدي، لم يكتف "كاهاي" بتلك العبارات على جداريتة، ولكنه تغالي في تصوير مشهد حبه لزوجته، فقام بدهانها بنوع نادر، لم يستخدمه إلا ملوك الدولة القديمة في أهرامهم، فخرجت بتلك الصورة الرائعة.
من يقف أمام لوحه "كاهاي" وزوجته "ميريتيتيس" سيدرك تلك الهالة التي انتابت العاشقين، فتكشف اللوحة تحديق الزوج والزوجة في أعين بعضهما البعض، ومشاعر الحب تهيمن عليهما بصورة واضحة، وتقوم الزوجة بوضع يدها على كتف زوجها اليمنى، ويظهر "كاهاي" في اللوحة وهو يرتدي زيا من جلد النمر ويمسك عصا وصولجانا، وهما رمزان للسلطة، كما كان يُعتقد في مصر القديمة، فيما كانت ترتدي "ميريتيتيس" فستانًا طويلا ضيقًا بحمالات.
الاسترالية "ميرال لاشين" خبيرة المصريات بجامعة "ماكواري" حينما سألوها عن أهيمه تلك اللوحة الجدارية، قالت إلى أن مقبرة "كاهاي" تعتبر مثالاً على الأهمية التي كانت تحظى بها المرأة في تلك الفترة، وأن تكرار تقديم المرأة في الأعمال الفنية في المقابر المختلفة، وتصويرها بالحجم نفسه الذي كان يتم من خلاله تصوير الأزواج والأشقاء، كلها أمور تدل على مكانتها المتساوية.
القصيدة الطينية
علي بعد أكثر من 1300 كيلو متر من شرق صحراء سقارة قصة حب أخري، ترويها أرض بابل بحضارتها العظيمة، ذات يوم، وأثناء تنقيبها في منطقة "نيبور" والمعروفة اليوم بـ"النفر"، الواقعة في مدينة الديوانية في العراق، عثرت البعثة الأمريكية على لوحه حجرية صغيرة، يعود تاريخها إلى 2025 سنة قبل الميلاد، لا يتعدي طولها بضع سنتيمترات، وكالعادة استولوا عليها.
"رسالة عشق".. أقل وصف يمكن أن يصف تلك اللوحة القادمة من عُمق التاريخ، فتاة صغيرة، هكذا يبدوا من أسلوبها الرقيق، وطبقا لما قدمه الباحث في الدراسات البابلية، البروفيسور أندرو أر جورج في "سواس" أو قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى والشرق الأوسط في جامعة لندن، في إحدي محاضراته بجامعة شيكاغو، فإن تلك العاشقة البابلية بقصيدتها لمعشوقها، قدمت للإنسانية أرقي قصائد الغرام.
"ابحث عني إلى أن تجدني.. أنا في البريّة وقد انتهيت من إقتلاع الأشواك.. والآن سأزرعُ كرمة عنبٍ.. وقد غمرت النّار المستعرة في داخلي بالماء..فأحبّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة.. واعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشيتك.. وابحثْ عنِي.. إلى أنْ تجِدني"
تلك كانت أبيات قصيدة العاشقة البابلية، نقشتها بأناملها الرقيقة على اللوح الطيني باللغة الأكادية، تلك اللغة التي تسمى أيضاً باللغة الآشورية- البابلية، وهي من اللغات الساميّة الشرقية، وكانت اللغة المحكية في بلاد ما بين النهرين ما بين الألف الثالث حتى الألف الأول قبل الميلاد، وكانت تدون بالخط المسماري.
وبعد أن نجح أندرو جورج في تحويل النقش الثلاثي الأبعاد إلى نص، وجد أن إحدى نقوش اللوح ليست تعويذة كما هو حال النقوش الأخرى، وإنما هي قصيدة قصيرة، بل أقدم ما وصلنا من حضارات العالم حتى اليوم، ولأن اللغة البابلية تستخدم حروفاً متحركة وحروفاً ساكنة، يعتقد المختصون بأنه بالإمكان لفظها وقراءتها إلى حد كبير، وكما كان ينطق بها سكان بلاد ما بين الرافدين أنفسهم.
البروفيسور أندرو أر جورج في محاضرته بجامعة شيكاغو أشار إلى أنه في السطرين الأول والثاني، تستخدم القصيدة فعلاً في صيغة الماضي وآخر في صيغة المستقبل، الأول فعل "اقتلاع" وتحرر، والثاني فعل "زرع" وتجديد للحياة، وكأن هناك تقابل بينهما: تخلّص من مشاكل الماضي مقابل الأمل في فرح ينتظرها في المستقبل، فهناك "مسافة" بين الحقيقة والواقع من جهة، والأمل والمستقبل من جهة أخرى. وكأن القصيدة تنهيدة من أوجاع الحياة ومعاناة ماضيها، وتطلع إلى حلاوة الأمل والرغبة في اللقاء والفرح.
وما نعرفه من صوت القصيدة، أنّ الفتاة صاحبة الأبيات، تأتي من خلفية زراعية، وأما حبيبها الذي تناديه فهو راع، وبهذا ترمز قصة الحبّ بينهما، بمعنى من المعاني، إلى "تزاوج" قسمي الحياة البابلية، وعماد اقتصادها: الزراعة والرعي.
ومع أن النار قد تفسر اليوم بأنها رمز للحب والشغف، إلا أنها في الثقافة السومرية، كانت تعتبر رمزاً للقلق وللخوف، ولهذا يمكن فهم البيت: "وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء"، بأنّ الصبية تتحدث عن نهاية مخاوفها، ورغبتها بأن تبدأ حياة جديدة، وكأن محبتها للشاب الذي تناديه قد حررتها.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية