قبل أكثر من ثلاثة قرون، وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، قرر أحد قادة الجيش العثماني في رشيد، وقائد المدفعية "عثمان آغا الطوبجي"، إنشاء طاحونة في شارع الامصيلي بمدينة رشيد الساحلية، تلك الطاحونة التي أضحت معلمًا أثريًا، وشاهدًا علي تاريخ تلك المدينة الساحلة، بل تاريخ البحيرة كلها، فقد أضحت تلك المدينة، وطيلة عقود طويلة، تشتهر بكثرة الطواحين.
في نهايات العصر الوسيط للدولة المصرية، لم تكن عملية طحن الغلال مجرد عاده يوميه، يقوم بها الفلاحون وأهالي البلده، حتي أنها تحولت إلي مناسبة رسميه يحتفل بها أصحاب الغلال في مواسم الحصاد، نراهم يتجولون في مواكب من الطبل والزمر ذاهبين إلي تلك الطواحين، حاملين غلاتهم علي ظهر دوابهم، آملين العودة إلي أطفالهم بقوت عامهم انتظارًا لموسم جديد.
كانت تلك الطواحين يتم بناؤها إما كمنشأة مستقلة، أو جزء لا يتجزأ من منزل أحد الاغنياء، كانت الأخيرة تُدار بواسطة الدواب، بينما طواحين الفقراء تُدار بسواعد الرجال، ما دعا عثمان آغا الطوبجي لإنشاء طاحونة أبو شاهين، لا تهدف إلي الربح، يذهب عائدها للإنفاق على مسجد "المحلي"، أكبر مساجد رشيد في ذلك الوقت، وللعناية بعمارته سواء الداخلية أو الخارجية، ويعتقد الباحثين والأثريين أنها اكتسبت اسم "أبو شاهين"، من اسم أخر الطحانين العاملين بها قبل توقفها.
أما عن الطاحونة وعمارتها، فقد بُنيت بالطوب المنجور، وهو الطوب التي أشتهرت به مدينة رشيد في ذلك الوقت، والذي كان يُحرق بدرجة معينة ليأخذ اللونين الأسود والأحمر، كما تم إضافة الميد الخشبية بالجدران لتجنب حدوث شروخ في المستقبل، أما الاسقف فقد تم تدعيمها بالصواري الخشبية، تدار بواسطة بغال معصوبة العينين، وكان الهدف من ذلك عدم اضطرار الطحان للوقوف بجوار البغل الذي يدير ذراع الطاحونة، ما يمكنه من إنجاز أعمال أخرى دون أن تشعر الدابة بغيابه فيتوقف عن دفع ذراع الطاحونة، كما أنه يساعد علي منع شعور البغل بالدوار نتيجة الدوران بذراع الطاحونة.
تطل طاحونة أبو شاهين على الواجهة الرئيسية من شارع الأمصيلي، ويغلق عليها باب يتكون من مصراعين من الخشب، يعلوه منور من المصبعات الحديدية، ويتم الوصول من خلال هذا الباب إلى الدركاة أو ما يسمى باسم "المسطاح" وهو مكان يتم فيه تجميع وتهوية الغلال المراد طحنها، كما يتم فرد الغلال به استعداداً لعملية الطحن، وتتكون الطاحونة من مدارين، أحداهما شرقي والأخر غربي، يمثلان الجزء الرئيسي للطاحونة، وكل مدار مكون من حجر مستدير به فتحة، في وسطه للأسفل توجد قاعدة ثابتة ذات حافة بارزة لحجز الحجر المستدير، وفتحة أخرى لصب الدقيق.
أما الحجر العلوي للطاحونة فمثبت من أسفله بعجلة صغيرة تتصل بدورها بعجلة كبيرة عبارة عن ترس من الخشب، تلك العجلة مثبتة في قائم خشبي رأسي الوضع ومربع الشكل، متصل بمحور الترس الكبير، ويدور حول نفسه، وينتهي من أعلى بأصبع خشبي يدور في ثقب داخل "الجايزة"، وهي قطعة من الخشب المستعرض، والتي تحمل أجزاء الطاحونة وتتصل "بالهرميس" المتصل برقبة البغال لتحريك الطاحونة، وهناك فتحتان معقودتان بكلا المدارين يرتكز عقد كل منهما على عمودين رخاميين، كانتا تستخدمان لجلوس السايس الذي يشرف على التشغيل، كما أننا نجد ضحايا ضحلة بالجدران التي تحيط بالمدارين وذلك لمنع احتكاك الحيوانات بها.
وتضم الطاحونة حجرة لمبيت الطحان، وإسطبل لمبيت البغال التي تدير الطواحين، سُقف الجزء الشرقي والجنوبي منه، ويحتوي هذا الإسطبل على حوض مياه وكان الإسطبل مخصص لإستقبال الدواب التي تحمل الحبوب والغلال المراد طحنها، كما خصص لها أماكن لوضع العلف ومرابط وأحواض فيها مياه لسقاية الدواب، وكانت الطاحونة تمتاز بوجود قادوسين متقابلين ومنفصلين كليهما عن الأخر، وهي تستطيع أن تطحن نوعين من الحبوب في آن واحد، وكل منهما مرفق بصندوق لنقل الحركة والتحكم في درجة نعومة أو خشونة الطحين.
طيلة قرون ظلت الطاحونة تعمل بشكل يومي، عدا يوم الجمعة، والذي كان يمثل يوم العطلة الأسبوعية، فيه يستريح الطحان من عناء العمل، وترتاح البغال من اللف حول الطاحونة، ومن ثم تتاح الفرصة لعمال الصيانة لتنظيف أحجار الطاحونة وتخليصها من الطحين والحبوب العالقة بها، مستخدماً في ذلك قطعة من الحديد مستطيلة الشكل يتم جلي الأحجار بها لتنظيفها، وكانت أجرة طحن الحبوب في ذلك الوقت تُدفع إما نقداً أو بنظام المقايضة الذي يتم عن طريق منح الطحان كمية من الحبوب التي تم طحنها بعد الإنتهاء من عملية الطحن، أو بعض المحاصيل الاخري.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية