"رأس نفرتيتي مِلك مصر، ويتبع ثقافتها التاريخية، قُمنا بسرقته حينما كانت مصر خاضعة للسيطرة البريطانية".. قد يبدوا هذا أول اعتراف ألماني نُشر في مجلة "دير شبيجل" الإسبوعية، والتي تُعد أحد أهم المطبوعات الرسمية الألمانية، بل وتصدر رأس الملكة وذلك العنوان العريض الغلاف الخارجي، في بادرة قد تُعيد فتح ملف عودة التمثال إلي مصر ليتصدر قاعة المتحف المصري الكبير.
الإعتراف جاء علي لسان المؤرخ الألماني "يورغن زيمرر"، وذلك في لقاءه مع الصحفية " إيفا ماريا شنور"، والذي أكد فيه أن تلك التحفة الفنية، والممثلة في رأس الملكة نفرتيتي، والذي يُعرض في مدينة برلين منذ أكثر من 107 عام، أثر تمت سرقته من مصر، وأن تلك الجريمة حدثت أثناء الوجود البريطاني في مصر، وأن الحكومة الألمانية استغلت ظروف الحكم الأجنبي الأوروبي لبعض البلدان، وقامت بالاستيلاء علي أثارها وكنوزها، وأن رأس الملكة نفرتيتي مِلكية خاصة بمصر.
المؤرخ الألماني "يورغن زيمرر"، أوضح في حواره مع إيفا أن الدول الغربية وعلي رأسها ألمانيا استغلت بعض القوانين التي وضعها المحتل الأوروبي، علي الأخص إنجلترا وفرنسا اللذان كانا مسؤولا عن إدارة الآثار، ليثبت بشكل قانوني أن له حق إمتلاك الأثر، وعلي رأس تلك القوانين السماح لفرق التنقيب التابعة للدول الغربية بالحصول علي جزء من الكنوز المكتشفة، مبينًا أن ذلك الحق كان منحة استعمارية لكل لصوص الأثار والكنوز، وأنه لا ينبغي الإعتماد على حقوق القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، ما يعني أن رأس نفرتيتي، وكل أثر هو حق أصيل لبلاد المنشأ.
وردًا علي قانون إدارة الآثار، والذي صدر في عهد والي مصر محمد سعيد باشا عام 1858، والذي منع خروج الإكتشافات الأثرية من البلاد، قال يورغن زيمرر، أن مصر كانت إحدي مقاطعات الإمبراطورية العثمانية، ورغم ذلك لم يكن لتلك الإمبراطورية أي دور فيما يحدث في بلاد الشرق، خاصة فيما يتعلق بالقوي الأوروبية الكبرى، وأن الديون المصرية الضخمة عقب حفر قناة السويس جعل من فرنسا وإنجلترا المتحكم الرئيسي في الإدارتين المالية والبنية التحتية عام 1878، ما مكن الغرب من الإستيلاء علي الكنوز الأفريقية، وعلي رأسها الأثار المصرية الفريدة.
"كانت الكنوز والآثار المصرية من الإبداع الذي جعل الغرب لا يصدق أن هناك حضارة علي الأرض وصلت إلي هذا الحد من الثقافة".. هكذا وصف المؤرخ الألماني زيمرر الفن المصري في حواره مع دير شبيجل، مشيرًا إلي أن الثقافة المصرية كان يُنظر إليها كفن وثقافة رائدة للثقافة الأوروبية، وأن كليوباترا ونفرتيتي ذوات بشرة بيضاء، لذا من حق الغرب أن يعرض تماثيلهم وثقافاتهم علي أرض أوروبية، لتعبر عن بدء الحضارة والثقافة الغربية، ولا يمكن عرضها في أرض أفريقية، لذا من النادر وجود أثار تنتمي لحضارة الفراعنة السود والأسرة الخامسة والعشرين
يري المؤرخ الألماني يورغن زيمرر، أن الصراع بين الدول الغربية حول القيادة العلمية للعالم في القرن التاسع عشر والعشرين، أدي إلي ظهور تنافس كبير بين لندن وباريس وبرلين في بناء المتاحف الكبري، تلك المتاحف لا يمكن أن يكون لها وجود إلا بأهم الأثار التاريخية، مؤكدًا أن مملكة بروسيا، وهي الدولة الألمانية خلال الفترة من 1701 حتي 1918، استغلت محاولات الوالي المصري محمد سعيد باشا للتقرب من الدول العظمي من أجل الحصول علي الاستقلال الكامل من الدولة العثمانية، بالسماح للبروسيين بأخذ الكثير من الإكتشافات إلي بلادهم، ما مكن عالم المصريات الألماني كارل ريتشارد ليبسيوس بالخروج من مصر وبحوزته 1500 قطعة أثرية إلي برلين، وذلك خلال الفترة من 1842 إلي 1854، وحتي اليوم تُعد الأساس الذي من أجلة تم بناء المتحف المصري في برلين، وهو إجراء غير أخلاقي ارتكبته القوي الإستعمارية.
"قرار سياسي".. هكذا يري المؤرخ الألماني قرار إعادة الأثار المصرية، وعلي رأسها رأس نفرتيتي، وإن كان يري في نفس الوقت ضرورة الإعتراف ولو لمرة واحدة بأحقية تلك الأثار للدولة وللشعب المصري، رافضًا فكرة وجودها لمجرد أنها محفوظة في متاحف عريقة، وأن الدول أصحاب تلك الاثار ليس لديها مواقع أمنة لحفظ الأثار.
أما عن رأس نفرتيتي، فقد عثرت علية البعثة الألمانية بقيادة لودفيج بورشاردت في السادس من ديسمبر عام 1912، وذلك في منطقة تل العمارنة، وتحديدًا داخل ورشة عمل النحات المصري "تحتمس"، والتي عثر بها أيضًا على عدد من التماثيل النصفية التي لم تنته لنفرتيتي، وقد وصف بورشاردت الاكتشاف في مذكراته، قائلًا: "فجأة، أصبح بين أيدينا أفضل الأعمال الفنية المصرية الباقية، لا يمكن وصف ذلك بالكلمات، لابد أن تراه بعينيك".
وفي عام 1924 عُثر علي وثيقة رسمية تعود إلي 20 يناير 1913، وذلك بين أوراق أرشيف الشركة الشرقية الألمانية التي تولت أعمال التنقيب، عبارة عن محضر إجتماع دار بين لودفيج بورشاردت ومسؤول مصري رفيع، وذلك لمناقشة تقسيم الاكتشافات الأثرية التي عُثر عليها في عام 1912 بين ألمانيا ومصر، ووفقًا للأمين العام للشركة الشرقية الألمانية صاحب الوثيقة، والذي كان حاضرًا للاجتماع، فإن بورشاردت كان عاقدًا العزم على أن يكون التمثال للألمان، وانه يشك في أن يكون بورشاردت قد أخفى قيمة التمثال النصفي الحقيقية، وأنه عرض علي المصريين صورة ذات إضاءة سيئة، كما قام بإخفاء التمثال في صندوق عند زيارة مفتش عام الآثار المصرية غوستاف لوفيفري للتفتيش، بالإضافة لإدعائة أن التمثال مصنوع من الجبس لتضليل المفتش، بالرغم من إنكاره لذلك فيما بعد.
في عام 1913 وصل التمثال إلى ألمانيا، وتم منحه لتاجر الأثار وممول حفائر تل العمارنة "هنري جيمس سيمون"، وبقي في حوزته ضمن مجموعة من الاثار المصرية، وحتي تمت إعارتهم لمتحف برلين، ورغم عرض كل الأثار المصرية في المتحف عام 1913، إلا أن رأس نفرتيتي ظل حبيس المخزن حتي عام 1924، وذلك بعد موافقة كتابية من بورشاردت، ليتم عرضه في المتحف المصري في برلين، حتي عام 1939 ليتم نقله ليُعرض في متحف برلين الجديد، قبل أن يتم نقله إلي ملاجئ آمنة للحفاظ علية من غارات الحرب العالمية الثانية.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية