منذ آلاف السنين، اعتقد أجدادنا الفراعين، أن الإنسان سيبعث بعد موته من جديد، ليحيا حياة الخلود، لذا كان أحرص ما يكون حفاظاً علي جسد الموتى، ما أدي إلي ابتكار علم التحنيط، ذلك العلم الذي أريد به الاحتفاظ بأجساد الموتى, كما أنهم راعوا دفن جثث الموتى بعيداً عن رشح المياه الجوفية، فوضعوها فى قبور أشبه بالحصون، راعوا نشرها بالأماكن الجافة بالصحاري المصرية، سواء داخل الأهرامات، أو المعابد المنتشرة هنا وهناك، تلك العملية كانت تتم وفقاً للاكتشافات الأثرية فى ظل علوم طبية متقدمة، وأطباء أكفاء قادرين على استخدام كل ما تجود به الطبيعة والتربة المصرية من مواد صيدلية وكيمائية.
"أدوين سميث.. إيبرز.. هيرست.. الرامسيون.. الكاهون.. شيستر بياتي.. بروكلين".. من يتابع مئات البرديات الطبية التي عُثر عليها في منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سيجد رصدا كاملا لكل ما كتبه المصريون من وسائل علاجية واستشفائية طبيعية، فقبل خمسة آلاف عام مضت أنجبت مصر عميد الطب العالمي، ورائده بإجماع المؤرخين، إنه "ايمحوتب"، وزير كبير كهنة المرتلين لفرعون الأسرة الثالثة، الملك "زوسر"، مُشيداً أول صرح حجري فى التاريخ، هرم "زوسر" المدرج بصحاري سقارة بمحافظة الجيزة، كان أعظم وأول من أنجبتهم الأرض في عالم الطب، حتي إنه كان معبوداً في منف كإله للشفاء.
لا يجب أن ننسي أن أول من ذكر أهمية العلاج الطبيعي ولفتوا الاهتمام الي أهمية مصر كانوا الإغريق، فها هو ذا أشهر فلاسفتهم وحكمائهم "سقراط"، والذي يُعد أحد مؤسسي علم العلاج الطبيعي المناخي، يذكر بلادنا في أحد صحائفه المشهورة، تحت عنوان "مصر والعلاج المناخي"، بل إن أحد أعظم أطبائهم علي مر العصور، وهو "جالينوس"، ينصح شعوب العالم بالانتقال إليها، والاستمتاع بجوها الدافئ، ورياحها البحرية المنعشة، حتي أبو التاريخ "هيرودوت"، فرغم أنه لم يعمل أو يفهم في مجالات الطب المختلفة، إلا أنه لم يفوت الفرصة ليوثق تاريخيا ما تمتعت به الأمة المصرية دوناً عن غيرها من الأمم، فنشر يقول في صحائفه: "أن المصريين بما يتمتعون به فى الحياة من جو متجانس لا تقلبات فيه يمتازون بصحة تفوق صحة باقي الناس".
يوماً بعد يوم، ومع تزايد الاكتشافات الأثرية، بزغت الأهمية الطبية والاستشفائية للطبيعة المصرية المتفردة، وأظهرت البرديات والنقوش أهمية العديد من المواقع التاريخية، فظهرت الطبيعة العلاجية لمواقع مثل حلوان التي عُرفت بأنها مدينة الشفاء المقدس، والفيوم وجنوب سيناء وسفاجا، ووادي مريوط، ووادي النطرون، وواحة منيا بالصحراء الغربية، وواحة آمون، والعين السخنة، وحمامات كليوباترا بالبحر الأحمر، وغيرها، بل إن آثارنا القديمة كشفت لنا منذ زمن سحيق ما تتمتع به تلك المواقع، من مياه معدنية، ورمال وكثبان، قادرة على علاج وشفاء العديد من الأمراض المعاصرة، كالأمراض الجلدية والروماتزمية.
"كنز مصر المفقود".. هو التوصيف الأدق الذي يمكن أن نصف به السياحة العلاجية والاستشفائية الطبيعية بمصر، فقد كانت مصر، وما زالت، محطا لطلب العلاج الطبي، أو الجراحي، ما يعطى خلفية متميزة تدعم السمعة الحضارية العظيمة لمصر وشعبها، ودون شك سينعكس على المجالات الأخرى، ومنها بالطبع المجال الاقتصادي.
داخل الأراضي المصرية، هناك المئات وربما الآلاف من العيون والآبار الطبيعية، المعدنية والكبريتية، تختلف فى العمق والسعة ودرجة الحرارة، ما بين 30 و37 درجة مئوية، أثبتت التحليلات المعملية احتواء أغلبها على أعلى نسبة من عنصر الكبريت مقارنة بالآبار المنتشرة فى شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلي عناصر أخري ذات قيمة علاجية، مثل كربونات الصوديوم، والعناصر الفلزية، كالماغنسيوم والحديد.
الدارس لهذا النوع من الطب المصري الأصيل، سيدرك أن الخريطة الاستشفائية الطبيعية تتوزع في طول مصر وعرضها، فهناك ما يقرب من 16 موقعاً مهماً لعلاج الأمراض المختلفة طبيعياً، تلك المواقع تضم ما يقرب من 1400 عيناً وبئراً مختلفة، تلك العيون والآبار أظهرت قدرة في علاج أمراض الروماتيزم والبهاق والصدفية، فهناك خمس عيون بحلوان، وثلاث أخري في عين الصيرة، و36 في الفيوم، وأربعة في وادي الريان، و33 في شبه جزيرة سيناء، و315 في الواحة البحرية، و106 في سيوة، إضافة إلى عدد هائل يقدر بحوالي 564 في الواحات الداخلة، و188 في الخارجة، و75 في الفرافرة، ومجموعة أخري تنتشر في خليج السويس والقطارة ووادي النطرون والجارة.
الحقيقة أن الرمال المصرية لم تكن أقل ثراء من مياهها الجوفية، فقد أثبتت جميع الدراسات المعملية احتواء كثبانها الرملية على نسب مأمونة وعظيمة الفائدة من العناصر المشعة, وقد أدى بالفعل علاج الأجساد المصابة بطمرة بالرمال لفترات مدروسة ومحددة إلي نتائج غير مسبوقة، وقد شملت تلك الأمراض قائمة طويلة علي رأسها الروماتيزم والروماتويد والآلام الناجمة عن أمراض العمود الفقري وغيرها.
أهم ما يمكن أن نلفت الانتباه إليه، هو المقومات الطبيعية للسياحة العلاجية المصرية، فمصر تحمل تلك المقومات لكي تجعلها واحدة من أهم مراكز السياحة العلاجية في العالم، وأهم تلك المقومات، أولا: وجود أماكن مرتفعة ومتسعة تفيد في علاج الربو والسعال الديكى والنزلات الشعبية والرئوية، ثانيا: أشعة الشمس وتعتبر منطقة الوادي الجديد منطقة سطوع شمس كبرى فى العالم، وتعود أهميتها في القدرة الرهيبة علي الحد من تكاثر الميكروبات، كما أنها تؤثر على إفراز العصير المعدي ومستويات الكالسيوم والفسفور في الجسم، وتزيد من مقاومة الجسم ضد الأمراض، ثالثا: الهواء الجوى النقي بجوار العيون المعدنية الغنية ببعض المواد التي لها تأثير خاص مثل الأبودين والكبريت وغاز الرادون المفيدة.
ماذا نحتاج لاستعادة هذا الكنز المفقود؟.. ذلك هو السؤال الأهم، فحتي تستعيد مصر مكانتها العالمية في الاستشفاء المناجي، يجب توافر عدد من المقومات المهمة، اعتقد أن أهمها البنية الأساسية التي يحتاجها كل طالب علاج طبيعي، سيكون من الضروري إنشاء طرق متخصصة، وأماكن لانتظار السيارات، والمطاعم والكافيتريات، والمستلزمات الرياضية، العلاجية منها والترفيهية، بالإضافة الي الحدائق والمسطحات الخضراء، والفنادق والاستراحات، وسينمات ومسارح ومكتبات، ولا ننسي ضرورة إعداد دراسات الجدوى للمشروعات الخاصة بالسياحة العلاجية، وفتح باب الاستثمار وتشجيع المشروعات الاستثمارية المشتركة فى هذا المجال.
بقلم- د. هاني الناظر: طبيب جلدية
الرئيس السابق للمركز القومي للبحوث
رئيس مجلس إدارة مؤسسة إيجبشيان جيوجرافيك
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية