"عندما ينتهي كل هذا سنعطيه جنازة حقيقية تليق به".. كلمات باكية رددتها تلك الشابة الإيطالية مارتا مانفريدي، وذلك بمجرد أن علمت أن جدها ألفريدو فيزيولي، والذي أُصيب بفيروس كورونا، قد دُفن وحيدًا، بدون جنازة، بدون أحبائه، وبمباركة من الكاهن، فقد كانت كأغلب شعب إيطاليا حبيسة منزلها بعد أن فرض عليهم ذلك الفيروس حظر التجوال.
في الوقت الذي يثير فيه فيروس كورونا الفزع حول العالم، يتساءل البعض عن مصير ضحاياه من الموتي؟، وكيف يتم التعامل مع جثثهم؟، وما هي الحدود الآمنة التي تجعلهم لا يؤثرون سلبًا علي البيئة المُحيطة بهم؟، فمنذ وفاة أول حالة يوم التاسع من يناير عام 2020 وحتي اليوم، شهد العالم وفاة 19 ألأف و600 شخص، وذلك حتي الساعة الأولي ليوم 25 يناير 2020، بمتوسط يومي وصل إلي 250 حالة يوميًا طيلة 75 يومًا كاملة.
قد يختلف سكان الأرض في الكثير من الأشياء، عرقيًا، دينيًا، ثقافيًا، إقتصاديًا، لكن يظل التعامل مع الموتي ذا طقوس مقدسة للجميع، دائمًا ما تُمارس فيه الكثير من العادات والتقاليد وفقًا للمعتقد الديني، ما يعني أن تلك الحالة التي شعرت بها تلك الشابة الإيطالية مارتا مانفريدي، لن تختلف كثيرًا عن الحالة التي قد يشعر بها أهل ضحايا فيروس كورونا في 195 دولة أُصيبت به، فقد تم قطع الطقوس القديمة لتكريم الموتي، وذلك خوفًا من انتشار الفيروس وتعرض حياة ذويه للخطر.
البعض يعتقد أن جثث ضحايا الفيروسات يمكن ان تشكل خطرًا كبيرًا للبيئة المحيطة، أو أنها قد تؤدي إلي نقل الفيروس لأشخاص قد تتواجد بالقرب منه، وإن كانت العديد من الدراسات التي قامت بتنفيذها العديد من الهيئات، وعلي رأسها منظمة الصحة العالمية، والإتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، أثبتت عدم صحة ذلك الإعتقاد، ومع ذلك، فقد أدت الوفيات الجماعية نتيجة إنتشار وباء فيروسي إلى تغيير عادات الدفن، ظنًا من الناس أن ذلك يمثل حرصًا علي الجميع من تفشي الوباء مرة أخري، ما يطرح السؤال الأهم، كيف غيرت تلك الأوبئة الطقوس الجنائزية في المناطق المصابة أثناء تفشي المرض؟.
بمجرد أن ظهرت أول ضحية لفيروس كورونا، أصدرت السلطات الصينية أمرًا بحرق الجثث في محارق محددة بالقرب من مكان وفاتهم، وذلك بعد تطهير الجثث ووضعها في حقيبة مختومة من قِبل العاملين في المجال الطبي، ولا يُسمح بفتحها بعد الختم، كما أنه لا يجوز نقل رفاتهم بين المناطق المختلفة، ولا يمكن حفظها، سواء بالدفن الطبيعي، أو بأي وسيلة أخري، في نفس الوقت قامت بحظر كل التقاليد الجنائزية، علي رأسها مراسم الوداع، بالإضافة إلي عدم السماح لأحد بزيارة تلك المقابر التي دُفن بها، وإن سُمح للأقارب بأخذ البقايا بعد اكتمال حرق الجثة وتوثيقها.
ورغم أن تقرير إدارة الجثث التي أصدرته منظمة الصحة العالمية، أكد علي عدم وجود أي دليل على أن الجثث تشكل خطر الإصابة بأمراض وبائية بعد وقوع كارثة طبيعية، خاصة وأن أغلب الفيروسات لا تبقى على قيد الحياة لفترة طويلة في جسم الإنسان بعد الموت، إلا أن حالة الذعر والخوف التي انتابت الجميع إثر وقوع الآلاف من الضحايا والقتلي جراء تفشي فيروس وبائي، جعلتهم يتعاملون مع جثث قتلاهم بطريقة حذرة، ففي أيرلندا علي سبيل المثال، نصحت السلطات الصحية جميع من يتعامل مع الجثث بوضع أقنعة للوجه على جثث الموتى للحد من خطر الإصابة بالعدوى، وإن كانت معظم العائلات ترفض حضور أي جنازات، وتفضل التعبير عن تعازيهم عبر الإنترنت من خلال مواقع مثل RIP.ie، حيث يتم عادة نشر إشعارات الوفاة ودعوات الجنازات من خلاله.
أما في إيطاليا، أكبر البلدان إصابة بالوباء، فقد قامت إحدي شركات تنظيم الجنازات بوضع روابط لفيديوهات تسمح للعائلات المعزولة بمشاهدة الكاهن وهو يبارك المتوفى، الأكثر من ذلك أن بعض العاملين مع تلك الجثث أكد أنهم يعملون دون إنقطاع منذ بداية الوباء، وأنهم لا يشربون الماء حتى لا يذهبون إلى المرحاض فيضطرون لخلع الملابس الواقية، في حين تسبب الخوف من الفيروس في كوريا الجنوبية في إلغاء الطقوس الجنائزية، والتي عادة ما تقام لثلاثة أيام من الصلوات والولائم، وطبقًا لإحصاءات جمعية الجنازات الكورية، انخفض إقبال المشيعين علي الجنازات بما يعادل 90%، بغض النظر عما إذا كان المتوفى مصابًا بالفيروس أم لا.
الأرض الحرام
لم تكن تلك هي المرة الأولي التي يتعرض لها الإنسان لهجوم الفيروسات، فطيلة قرون طويلة واجه الأوبئة التي كادت أن تهدد حياته، وفي كل مرة كان يضطر لتغيير عاداته وتقاليدة في التعامل مع ضحايا الأوبئة، فعلي سبيل المثال، وأثناء تفشي الطاعون الأسود في منتصف القرن الرابع عشر، وتحديدًا خلال الفترة من 1348 حتي 1350، تعرضت المدينة الإنجليزية لندن لوباء الطاعون الأسود، وكان السكان قبل الوباء قد اعتادوا علي التواجد حول الموتى، هكذا وصفتهم كاثرين أرنولد في كتابها "نيكروبوليس: لندن وموتها"، فقد كانت العلاقة بين الأحياء والأموات مختلفة تمامًا، حيث كانت الكنيسة المسيحية مركز الحياة الثقافية، ودُفن الناس على أرض الكنيسة، أي أن الموتي كانوا قريبين جدًا.
وفي خريف من عام 1348، أُصيبت المدينة بوباء الطاعون، ما غير طبيعة وعادات تلك المدينة الصغيرة، وقد أكدت كاثرين أرنولد أن الطاعون لم ينتقل من لمس تلك الجثث، ولكنه انتقل من خلال البراغيث والقمل المصاحب لتلك الجثث، ما ساعد علي انتشار الوباء الذي استمر حوالي 18 شهرًا، وأدي إلي وفاة أكثر من نصف سكان المدينة، ما جعل أسقف لندن يقوم بشراء ممتلكات تسمى "الأرض الحرام" لدفن ضحايا الطاعون، كما اشترى أحد الإنجليز قطعة أرض مجاورة، تبلع مساحتها 13 فدانًا لنفس الغرض، ليتم دفن الضحايا علي عُمق أكثر من 5 أمتار لأول مرة، وفقًا لموسوعة "تاريخ لندن" للمؤرخ الإسكتلندي ويليام ميتلاند، والذي وجد العديد من القبور الجماعية والجثث المكدثة.
أكتوبر الحزين
بعد أكثر ما يقرب من نصف قرن، وتحديدا بنهاية الحرب العالمية الأولي 1918، تعرضت إسبانيا لوباء الإنفلونزا، ثم انتقل إلي جميع أنحاء العالم، ليقتل في أقل من عامين ما بين 30 إلي 50 مليون شخص، بينهم ما يقرب من مليون بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي تُعد أحد أكبر المتضررين، بل أن شهر أكتوبر 1918 كان الاكثر دموية بسقوط أكثر من 200 ألف ضحية، ما شكل صعوبة في عمليات الدفن لضحايا الوباء، وذلك طبقًا لدراسة نشرتها الباحثة الأمريكية مونيكا شوتش-سبانا عام 2000، في جمعية الأمراض المعدية للجمعية الأمريكية لطب فيروس نقص المناعة البشرية، والتي أكدت عجز متعهدو دفن حفائر القبور وصناع النعش من مواكبة أكثر جائحة قاتلة في التاريخ.
"كانت أمريكا غير مستعدة للوفيات الجماعية للأنفلونزا".. هكذا جاء في موسوعة "الجائحة المنسية في أمريكا: أنفلونزا عام 1918"، للمؤرخ الأمريكي ألفريد كروسبي، خاصة وأن عملية حرق الجثث لم تكن شائعة في ذلك الوقت، ما أدي إلي تكدث الجثث التي فاقت قدرة متعهدي الدفن وصانعي النعوش، ما أدي إلي مشاهد مخيفة، علي الأخص في ولايات الشرق الامريكي، فقد أبلغت ممرضات الصليب الأحمر في بالتيمور عن وجود حالات مُصابة في الكثير من المنازل، وأن المصابين أضطروا لتغطية جثث ذويهم بالجليد في إحدي زوايا غرف النوم، ومع غياب حفاري القبور عن العمل، إما لأنهم أصيبوا بالإنفلونزا أو لأنهم خافوا من ذلك، أُجبرت الكثير من العائلات على حفر المقابر لأبنائهم، كما تم الاستعانة بالسجناء للقيام بحفر عدد من المقابر الجماعية.
الجثث السامة
"شكلت عمليات الدفن الآمن لجثث ضحايا فيروس الإيبولا جزءًا هامًا من التعامل السريع والصحيح مع الفيروس".. هكذا أكدت مجلة الأمراض الإستوائية المهملة، وذلك في دراسة احصائية نشرتها لقياس تأثير برنامج الدفن الآمن لضحايا الإيبولا والذي قام به الصليب الأحمر، موضحة أن الإيبولا تختلف كثيرًا عن الطاعون والإنفلونزا الإسبانية بكل أنواعها، فقد أثبتت التجارب العلمية أن جثث الضحايا تنتج مواد سامة جدًا، وأنها معدية للغاية عن طريق الاتصال البشري المباشر بعد وفاة الضحية، فقد ساهمت الشعائر الجنائزية ومشاركة العائلات في تجهيز موتاهم في انتشار العدوي من جديد، حيث أُصيب شخصين علي الأقل بعد كل عملية دفن جماعية.
الحقيقة أن المقابر، وعمليات الدفن الجماعية الآمنة، لم تكن لكثرة ضحايا الفيروس، فوفقا لمركز السيطرة علي الأمراض والوقاية منها، لم يتجاوز عدد الضحايا 10 آلاف قتيل في منطقة غرب أفريقيا، ولكن لطبيعة الفيروس الذي تم تصنيفة كأحد أخطر الأمراض في القرن العشرين، تلك الخطورة أجبرت الجميع علي تغيير الطقوس الجنائزية، فعادة ما تنطوي عادات الدفن في غرب أفريقيا على غسل أفراد الأسرة للمتوفي وتقبيله، ما يؤدي إلى زيادة فرص انتقال الفيروس بشكل كبير، وقد أكدت منظمة الصحة العالمية أن ما يقرب من 20% من الإصابات الجديدة تحدث أثناء دفن ضحايا الإيبولا المتوفين.
مؤخرًا قام مركز مكافحة الأمراض والوقاية بإجراء دراسة مسحية حول طقوس الدفن لضحايا الإيبولا في دولة سيراليون، وتأكد من كونها غير أمنة وغير مقبولة من الناحية الصحية علي البيئة المحيطة، ما شجعة علي التوصية بسرعة نقل الجثث ودفنها أو حرقها مع مراعاة القليل لممارسات الدفن القياسية في المنطقة، وهو ما قامت به منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع الصليب الأحمر، والهلال الأحمر "IFRC"، ومنظمات غير حكومية أخرى، وبعض الجماعات الدينية، وعلماء الأنثروبولوجيا الطبية، وذلك من خلال مدافن آمنة وكريمة تحترم عائلات وأسر المتوفي.
أدركت الصحة العالمية منذ الوهلة الأولي كيف أن تنفيذ مدافن آمنة لضحايا الإيبولا نشاطًا محفوفًا بالمخاطر، لذا أمرت أعضاء فريق الدفن بارتداء معدات الحماية الشخصية "PPE"، ثم يقومون برش المنطقة بمحلول الكلور القوي، وبنسبة 0.5%، وذلك قبل وضع جثة الضحية بشكل آمن في كيس، ثم يقوم برش الكلور مرة أخرى، ثم وضعه في كيس آخر، ورغم أن عملية الحرق كانت الأفضل والأسهل من الناحية اللوجستية من الدفن الآمن، إلا إنها لم تكن من الطقوس الشائعة في غرب إفريقيا.
المصادر والمراجع:
- الكاتبة البريطانية كاثرين أرنولد، مدن الموتي: لندن وأمواتها، ٢٠٠٧
- المؤرخ الأسكتلندي وليام ميتلاند، تاريخ لندن، عام 1739
- جون باري، الإنفلونزا الكبرى: قصة الجائحة الأكثر فتكًا في التاريخ، ٢٠٠٤
- المؤرخ الأمريكي ألفريد كروسبي، الجائحة المنسية في أمريكا: أنفلونزا عام 1918، عام 1989
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية