أقدم بناء حجري في التاريخ

هرم زوسر المدرج.. مقبرة بلا جثمان

"تلك المومياء لا تخص زوسر الملك.. لا تخصه علي الإطلاق".. في ليلة باردة من ليالي شتاء عام 1822، وبتلك العبارات المتقطعة، راح المهندس الإيطالي "غيرولانو سيجاتو" يقفز صارخًا بصوت يائس، إحمرار عينيه يوحي بأن صدمة قوية تعرض لها، أو ربما هو أمل لم يتحقق كان ينتظر منه شيء يخلد تاريخه.

 

في غمرة حزنة، لم يشعر "سيجاتو" بذلك الذي يقترب منه، رجل وسيم، طويل القامة، ذو رأس مستطيل، وشارب كث يخفي معالم فمه، لم يكد يضع يديه علي كتفيه حتي انتفض فزعًا، قبل أن يلتفت إليه قائلًا بصوت هامس، لا تخص زوسر الملك يا "هاينريش"، تلك المومياء لا تخص صاحب ذلك الهرم، ربت "هاينريش فون مالتزان" عالم الآثار الألماني، والذي تمكن قبل أشهر قليلة برفقة "سيجاتو" من اكتشاف هرم زوسر المدرج، علي كتف زميله قائلًا، هون عليك يا سيجاتو سنجده هنا او هناك، وربما نجده مُلقيًا داخل إحدي السراديب السرية.

مر ما يقرب من قرن علي تلك الحادثة، ولم يعثر أي من العلماء علي أي أثر لمومياء الملك زوسر داخل هرمه المجرد، فقد تكبد ذلك الملك عناء بناء ذلك الهرم الضخم، والذي يضم أكثر من 3 ملايين و330 ألف متر مكعب حجري من الطين والحجر، وقام بتصميمه المهندس العظيم "إمحوتب"، أول مهندس معماري في التاريخ، وذلك قبل نحو أربعة آلاف وستمائة عام قبل الميلاد في شمال غرب مدينة ممفيس القديمة، وحاليا تقع بمدينة البدرشين التابعة لمحافظة الجيزة، ورغم وجود أكثر من 400 غرفة، والعديد من الممرات والسراديب المعقدة، لم يجد أحد حتي اليوم أي أثر لمومياء الملك المصري زوسر.

 

في بادئ الأمر عثر الفريق الأثري عام 1921 علي بقايا مومياء داخل إحدي الممرات الجانبية، وعبارة عن جمجمة مغطاة بالذهب وكعبي قدمين مغطاة أيضا بالذهب، ولكنه للأسف لم تكن تخص الملك زوسر، ورغم أنها حتي اليوم تُعد مومياء مجهولة الهوية، إلا أن جميع الأبحاث العلمية أثبتت إنتماؤها لحقبة تاريخية لاحقة علي العصر الذي بُني فيه الهرم المدرج، وبعد أكثر من خمسة عشر عامًا، وتحديدًا في منتصف عام 1934 اعتقد العالم الأثري "جين لاور" أنه قد عثر علي بقايا مومياء الملك زوسر داخل الغرفة الرئيسية للهرم، ولكن باحثي جامعة القاهرة أكتشفوا سنه 1988 أنها لا تنتمي للملك، وأنها طبقًا لتأريخ الكربون المشع تنتمي لأشخاص ينتمون للعصر البطلمي.

السؤال الأهم الأن، من هو الملك زوسر، هو الملك المصري الثاني في ترتيب ملوك الأسرة الثالثة عشر، تولي العرش في بداية الدولة القديمة، تحديدًا خلال الفترة من 2686 قبل الميلاد و2600 قبل الميلاد، وقد ذُكر اسمه في بردية تورين باللون الأحمر تمييزًا له عن باقي ملوك الدولة القديمة، ويُعد الهرم المدرج الذي أمر المهندس إمحتب ببنائه أول بناء حجري ضخم عرفه التاريخ، وقام ببنائه على مسافة ميل من جرف سقارة ليبتعد عن باقي المقابر.

 

يتكون الهرم زوسر المدرج من ستة مصاطب غير متساوية، وبارتفاع يصل إلي 63 مترًا، وبقاعدة مستطيلة تصل أضلاعها 109 و125 مترًا، وكان مُغطى بالحجر الجيري أبيض، أما من الداخل فيتكون من شبكة ممرات ودهاليز معقدة، في منتصفة غرفة دفن الملك، والتي بُنيت من الجرانيت والرخام، وبذلك يُعد أول قبر ملكي في التاريخ تم بناؤه علي شكل هرمي من مجموعة مصاطب، ما يجعله يمثل تطورًا هائلاً في تصميم القبور في ذلك العهد، والذي كان يكتفي بمصطبة واحدة، علي جدرانه أكثر من 400 ألف نقش تسرد تاريخ الدولة القديمة.

يحيط بالهرم المدرج فناء واسع يُعرف باسم "جسر المدير، كما يُعرف ايضًا باسم "السياج العظيم"، وهو أقدم بناء حجري معروف في مصر، ويبدو أنه سبق بناء الهرم، وقد تم بناءه خلال عشرين عاما، وذلك خلال الفترة ما بين أعوام 2737 قبل الميلاد و2717 قبل الميلاد، كما تم بناء هرم زوسر على أكثر من 5.7 كم من الأعمدة والغرف والأنفاق الوهمية، وذلك بهدف تضليل اللصوص، بالإضافة إلي جدارًا ضخمًا يحيط بالهرم يصل طوله إلي 1645 مترًا وارتفاع 10.5 مترًا، ويرتبط بالهرم الخندق  الكبير، ويصل عرضه إلي 40 مترًا، وبطول يصل إلى 750، بالإضافة إلي المقبرة الجنوبية والمعبد الجنائزي والذي يحتوي علي تمثال الملك زوسر شمال الهرم، وساحة المحكمة الكبرى، والتي تقع جنوب الهرم.

أما وجهة الهرم المدرج نفسه فتحتوي علي شرفات ضخمه وتماثيل متعددة الأحجام للملك زوسر، بعضها بالحجم الطبيعي، وبداخل الهرم نجد العديد من الممرات في كل الاتجاهات، اسفل الهرم بحوالي 28 متر تقع تلك الغرفة الملكية، يبلغ طولها حوالي 7 أمتار، مُصممة بالجرانيت الأحمر، ذات اسطح ملساء في أربع طبقات، وتؤدي غرفة يسميها الباحثون "غرفة مناورة" إلى حجرة الملك عن طريق فتحة مستديرة يبلغ قطرها نحو مترًا واحدًا، وتم إغلاقها بحجر جرانيتي يصل وزنه إلي حوالي 3.5 طنا، والتي وضع فوقها المصطبة الأولي للهرم نفسه، ولكنها خالية من جثمان الملك زوسر نفسه.

 

وقد شهد الهرم عدد من مراحل البناء، كانت في البداية على شكل مصاطب مربعة الشكل، ثم تم تغييرها إلي مصاطب مستطيلة وضعت علي ستة مستويات، كما تم بناء أربعة دهاليز حول حجرة الدفن، يتصل بها مجموعة من الممرات لوضع الأثاث الجنائزي، كما تم حفر نفق يمتد طوله إلي 20 مترا شمالا، ويقع مدخل هذا النفق خارج الهرم المدرج، وقد عُثر داخل أحد ممرات الهرم علي تابوت من المرمر، كما عُثر علي أكثر من 30 ألفا من الأواني المصنوعة من المرمر والديوريت، نُقش عليها أسماء أسلاف الملك زوسر.

المصادر:

المصور الأمريكي  David O'Malley

و MONNIER Franck

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية