"علينا أن نعلم جيداً أن الإنسان المستنير علمياً أقدر علي مواجهة الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه، ولن يكون صيداً سهلاً لكل من يسعى لخديعته والمتاجرة بجهلة وعدم معرفته، كما علينا أن ندرك أنه بدون الجمهور المستنير علمياً، لن يستمر العلماء في الحصول علي الدعم المالي والمعنوي".. هكذا قال الأديب وعالم الكيمياء الحيوية الأمريكي إسحق أزيموف، ما يعني ان طبيعة العمل العلمي تتطلب الاهتمام بخلق ثقافة مجتمعية علمية، وذلك لن يتم إلا من خلال وضع استراتيجية مُحكمة لتبسيط العلوم، واقتلاع جذور حالة الرفض التي أصابت المصريين تجاه العلم بإزالة الرهبة من قلوبهم وعقولهم.
بالأمس القريب أطلقت مبادرة للاستفادة من العلماء المصريين المهاجرين، فلا يُعقل أن يكون هناك أكثر من 36 ألف عقل مصري، وفي كبري المجالات العلمية وأعقدها، ولا يكون لهم دور في تغيير الواقع العلمي للمجتمع المصري، وذلك من خلال إعادة تجربة محمد علي باشا باني الدولة المصرية الحديثة، حينما أوفد المئات من العقول المصرية لتلقي علوم الحضارة الغربية، ثم إعادتهم من جديد لنقل ما تعلموه من علوم وثقافة لوطنهم الأم.
كي تنجح تلك التجربة كما نجحت منذ أكثر من مئتي عام مضت، علينا أن ندرك أولًا أين تلك العقول؟، وما هي مواقع تمركزهم؟، وما هي التخصصات التي نحتاجها في تلك المرحلة؟، ما يعني أننا علينا أن نبدأ أولًا في إعداد شبكة ضخمة لقواعد البيانات التي ستضم كافة علماء المصريين في الخارج، من خلال تلك القاعدة سيتثنى لنا معرفة كل كبيرة وصغيرة عن عقولنا في الخارج، سنتمكن من استقدام أهم العقول في كافة التخصصات التي نحتاجها للاستفادة منها، وحينما نتمكن من ذلك، سيمكننا الاستغناء عن الاستعانة بأي خبرات أجنبية، والاستعانة بالخبرات المصرية التي تلقت علومها في الخارج.
ماذا يمكننا أن نحقق من تلك المبادرة؟، هذا هو السؤال الأهم، فالعلماء المصريين المهاجرين ليسوا مجرد أشخاص اضطرتهم ظروف البحث عن العلم في الهجرة إلي الغرب، ولكنهم كنز استراتيجي وجب الاستفادة منه، وبكل الطرق والآليات الممكنة، تلك الاستفادة يمكن ان تنحصر في شقين، الأول العمل علي تغيير المجتمع المصري وتحويله الي مجتمع مُحب للعلوم، من خلال تبسيط وفهم جميع النظريات والمناهج العلمية لمختلف العلوم، وإزالة الرهبة من عقول وقلوب الجيل الجديد لكل ما يخص العلم، حتي يتمكن هذا الجيل من صناعة مستقبلة باستعادة الحضارة المصرية.
أما فيما يخص الشق الثاني للاستفادة من العقول المصرية المهاجرة فتتمثل في مساعدة مصر بكل السبل في حل مشاكلها الاجتماعية، ومساعدة الدولة في مشاريعها الكبرى والتنموية من خلال الخبرات الكبرى التي اكتسبوها، فالخبير المصري يختلف كثيرًا عن أي خبير أجنبي يمكن أن يساعدنا في معالجة مشاكلنا الاجتماعية، لأن الخبير والعلق المصري يعلم مشاكلنا وعاداتنا جيدًا، في حين يقدم الخبير الأجنبي أفكار قد لا تتلاءم مع مشاكلنا وعاداتنا وتقاليدنا، ما يعني مدى مناسبتها لأرض الواقع.
الحقيقة أن مبادرة الاستفادة من العلماء المصريين المهاجرين، لا تعني علي الإطلاق انغلاق المصريين علي العالم، ولكنها ستكون خطوة أولي لبدء الاحتكاك المصري بالعقول الغربية، فأحد أهم الوظائف التي سيقوم بها العلماء المصريين المهاجرين، والذين سيتم استقدامهم، الاهتمام ورعاية النشء، والتنقيب دائما عن العقول الصغيرة التي يمكن أن تمتلك مهارات ابتكاريه وعلمية ومواهب حقيقية، وتدريبها وإزالة كل ما يحيط بها من شوائب الرهبة، ثم إرسال بعضهم إلى الخارج للاستفادة من الخبرات العالمية.
________________________________
طبيب جلدية والرئيس السابق للمركز القومي للبحوث
رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية لتبسيط العلوم
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية