منذ ما يقرب من القرن والرُبع قرن، وتحديدًا في العام 1892، وبينما كان الخديوي عباس حلمي الثاني يتريض صيف هذا العام في الطرف الشمالي الشرقي لمدينة الأسكندرية، أثار اعجابه ذلك الشاطئ بما يحويه من ألسنه صخرية تخترق مياة البحر، أحب صوت تسرب الماء بين ثناياه في خرير ساحر طرب له، فسار في موكب من ثمانون حمارًا بمحازاة الشاطئ، يرافقهم عازف بموسيقاه الخديوية، ليزداد إعجابًا بتلك المنطقة التي ستصبح منتزة عائلته الخاص.
"قصر المنتزة".. ذلك هو الإسم الذي قرر الخديوي عباس حلمى الثانى إطلاقه علي تلك المنطقة، فالموقع مؤهل ليصبح متنزهًا ومصيفًا ملكيًا ليس له مثيل، فهو يشكل مربعًا صغيرًا داخل مياة البحر المتوسط، ترتكز في طرفيها علي رابيتان عاليتان يبلغ ارتفاعهما 16 مترًا، وفي طرفة الشمالي الشرقي جزيرة صغيرة، فقرر الخديوى أن ينشئ فى هذه البقعة قصرا أنيقًا، أصبح فيما بعد إحدى التحف المعمارية، التي تمزج بين العمارة الكلاسيكية والعمارة القوطية بمراحلها المختلفة، بالإضافة إلى طراز عصر النهضة الإيطالي والطراز الاسلامي.
عندما أراد الخديوي بناء قصر في هذه البقعة الجميلة من الشـاطئ على غرار القصور النمساوية وسط الغابات، والتي عرفها حين كان يدرس في أكاديمية "ثريسيانيوم" في العاصمة النمساوية ڨيينا، لذا عهد الخديوي إلى مهندس القصور الخديوية حينذاك، المهندسس اليوناني الأصـل "ديمتري فابرشـيوس" باشا بناء القصر، والذي كان والده الخديوي توفيق قد عهد إليه من قبله بناء قصره في منطقة "السـرايا" بالأسكندرية نسبة إلى قصر الخديوي توفيق، ولكن وافتـه المنيـة قبل أن يسـكنه، فأقامت فيه روجته الحزينة، لذا أطلق علي القصر إسم "السرايا الحزينة".
وقد شرع "فابرشيوس" باشا في تصميم القصـر على إحدي الربـوتين، وانتهى البناء عام 1892، واسـتوحى تصميمه من الطرز النمساوية السائدة في القرن التاسع عشر إرضاءً لرغبة الخديوي وزوجته النمساوية الأصل "جلفيدان هانم"، وتميز هذا الطراز بإحياء الطرز التاريخية للعمارة القوطية، خاصة عمارة عصر النهضة الأوروبية، واعادة استخدام الأبراج والقباب المتعـددة.
وكأغلب قصور عصر النهضة الغربية، حرص "فابرشيوس" باشا علي تزيين القصر بحدائق واسعة بلغت أكثر من مليون ونصف المليون متر مربع، أي ما يعادل 370 فدان، زرعت بزهور وأشجار نادرة، علي رأسها اشجار الجزورينا والتي شكلت غابة طبيعية متكاملة بلغت حوالي 60 فدانًا، بالإضافة 58 فدانًا أخري من غابات النخيل، هذا غير غابات الموالح والفاكهة، وأمام القصر تم إنشاء كشكًا للموسيقى، ليشهد الحفلات الخديوية الصيفية، أما الرابية الأخرى فكانت عليها مدافع قديمة من عهد محمد علي باشا كانت تستخدم لحماية الشواطئ، ولا زالت موجودة حتى الآن، وأقيم أمامها مبنى السلاملك وسينما الاميرات.
كان قصر السلاملك أول قصر أنشئ في الحدائق، وهو إسم تركي يعني مكان للاستجمام والراحة، صُمم من ثلاثة طوابق، خصص الطابق الأرضي لمكتب الخديوي ولقاعات الاستقبال والطعام، بينما كان الطابقان الآخران لحجرات النوم والمعيشة الخاصة لإقامة الأسرة، وبعد فترة قصيرة، أقام الخديوى مسكنًا للحريم، وكانت فيلا من طابق واحد، ولكن تم إزالته في عصر الملك فؤاد لبناء قصر عرف فيما بعد بقصر الحرملك، وذلك في عام 1928.
أما الجزيرة الصغيرة المتواجدة علي الطرف الشمالي الشرقي، فقد تم بناء كشك كلاسيكي للشاي على الطراز الروماني، وذلك بعد أن تم ربطها بالشاطئ من خلال جسر علي الطراز الإيطالي القوطي، ينتهي بفنار يرشد السفن واليخوت الى خليج المنتزه، والذي كان يرسو به يخت الملك فاروق الأول، والذي حمل اسم "المحروسة".
وعرفت المنطقة منذ ذلك الحين باسم المنتزه تمييزًا عن المندرة شرقًا، وعندما كان صاحب الحضرة الخديوية ينتقل للإقامة بالمنتزه كان يقال أنه ارتحل إلى المنتزه، لذا عمل الخديوي علي تحويلها إلي أرض مثمرة بالبساتين والحدائق والغابات، واستقدم من أجل ذلك مهندسين زراعيين من النمسا، وأقام مكتبًا وإدارة لهذا الغرض أطلق عليهما "التفتيش"، ومباني أخرى لاسطبلات الخيل وما شابه، ومبني للتليفون والتلغراف.
وأثناء الحرب العالمية الأولى تحول قصر المنتزه إلى مستشفى لجنود الحرب البريطانيين المصابين، وبعد عزل الخديوي عباس حلمي وتولي السلطان حسين سـلطنة مصر بقي القصر خاليًا حتى عام 1922، وذلك حين تولى السلطان أحمد فؤاد سلطنة مصر، وأصبح فيما بعد ملكًا 1922، وكان قد حاول شراء القصر من مالكه الأصلي، وعندما فشل أوعز إلى الحكومة المصرية مفاوضة الخديوي، وشراء القصر من مالكه الأصلي الخديوي عباس، والذي كان مقيمًا في المنفى في الأسـتانة، وأصبح القصر أخيرًا ملكا للحكومة المصرية، وأحد قصورها الرسمية بعد مصادرة جميع أملاك الخديوي في دستور 1923.
عندما رغب الملك فؤاد سنة 1926 في بناء قصر فاخر جديد على غرار القصور الملكية الإيطالية، والتي كان قد أعجب بها، حيث أمضى تعليمه العسكري في الأكاديمية الملكية العسكرية في مدينة تيران الإيطالية، شرع في هدم الحرملك القديم وإقامة قصر جديد، على أن تقوم الحكومة المصرية بتجديده وتجميله وتزويده بالأثاث الفاخر، وإعادة تخطيط الشواطئ وتنسيق البساتين والغابات.
وعهد الملك فؤاد إلى أحد المهندسين الإيطاليين، وهو "أرنسـتو فيروتشي بك" مهندس القصور الملكية حينذاك بناء القصر الجديد وتنسيق الموقع حوله، وكان الإيطاليون محاطين بحاشية الملك، وكان لهم تأثير قوي في بلاطه ومجريات الأمور بصفة عامة، وقد تمكنوا واستحوذوا على صناعة وتجارة البناء في مصر، خاصة بناء وتجديد القصور الملكية لأفراد الأسرة العلوية في جميع أنحاء مصر.
يحكي الروائي السكندري اليوناني الأصل "هاري تزالاس" في كتابه "وداعًا الإسكندرية" قصة رواها له أحد بائعي الكتب القديمة بالعطارين عن والده الذي كان يعمل في حدائق المنتزه، فيقول إن الملك فؤاد فوجئ بوجود عرافة كانت تتجول في الحدائق وتنبأت له بمستقبل حافل ومُلك مزدهر، وقد طلبت منه أن يحافظ على أول حرف في اسمه حرف الفاء، ويطلقه على أولاده وذريتهم من بعده، فأمر الملك بوضع حرف الفاء لتزيين أجزاء مختلفة من القصر، وأعلى البوابات، وأطلق أسماء تبدأ بحرف الفاء على جميع أولاده فوزية وفايزة وفتحية وولي العهد فاروق، وتابع الملك فاروق استخدام حرف الفاء في تسمية زوجته الملكة فريدة ثم الأميرات فوزية وفريال وفايدة، ولكنه عندما تزوج ناريمان، وأنجب منها الأمير أحمد فؤاد، لم يتبع نفس التقليد، فجاءت نهاية ملكه، وتم نفيه مع ثورة 1952.
وبعد أن قام "فيروتشي" سنة 1924 بتجديد وتطوير قصر رأس التين على طراز الباروك الإيطالي، واستعان في تصميماته بالمهندسين والمقاولين والصناع والمواد المستوردة من إيطاليا، واستند في تصميمه لقاعة العرش إلى الطراز الإسلامي المستحدث بكبير مهندسي هيئة الأوقاف "ماريو روسي"، والذي يرجع له الفضل في تصميم العديد من المباني والمساجد الإسلامية، ومنها في الإسكندرية مسجد المرسي أبو العباس والقائد إبراهيم والسيد محمد كريم وسيدي التمراز، وقد قام فيروتشي بتصميم قصر الحرملك سنة 1927 على الطراز القوطي الشبية بالقصور والقلاع الإيطالية، علي الأخص قصر ماكينزي في مدينة فلورنسا.
ويعد الحوش الداخلي المسقوف بالزجاج الملون، أهم خصائص التصميم الداخلي لقصر الحرملك، والذي يجمع حوله الفراغات والسلالم الداخلية لعناصره، وتبرز التراسات الخارجية والسلالم والأبراج في تشكيلات بارزة في الواجهات الخارجية، وذلك مع التنوع في استخدام طوب السورناجا والبياض، وكذلك القيشاني الملون، بالإضافة إلي بعض التفاصيل الدقيقة والمتنوعة من الزخارف والعناصر المعمارية القوطية، والتي تشكل العمارة المميزة للقصر، وقد عهد بناء القصر إلى شركة دي فارو الإيطالية، والتي قامت أيضا بتنسيق الموقع، ومن أبرز معالمه الميناء الملكي، وحدائق الصبار، وحوش الغزال التي أحاطت بالقصر.
وفي عهد الملك فاروق الأول تم تكليف المهندس المعماري المصري البارز مصطفى باشا فهمي بإنشاء كوبري يربط جزيرة الشاي بالقصور الملكية، كما قام تم تكليفه بتصميم والإشراف على تنفيذ كشك الشاي على الطرز الكلاسيكية وإضافة السينما الخارجية ومكتب الملك إلى قصر السلاملك، كما قام بتصميم العديد من المباني الخدمية الملحقة بالموقع مثل برج المياه، ومحطة القطار الملكية ومكاتب الإدارة والركائب الملكية وغيرها من المباني الأخري بقصر المنتزه، كما إهتم الملك فاروق بحدائق المنتزه فأنشأ لها إدارة خاصة تشرف عليها وعلى إنتاج المحاصيل من الفواكه ولاسيما البلح والموالح وإنتاج وتربية الدواجن وكذلك النباتات النادرة في صوبة خاصة.
وعندما حلت ثورة 23 يوليو عام 1952 آل القصر وملحقاته وحدائقه وبساتينه إلى الشعب المصري، وفتحت أبوابه لأفراده للاستمتاع وقضاء أوقات الفراغ والاستجمام على شواطئه، ولكي يصبح هذا المكان البديع منطقة سياحية عهدت شركة المنتزه والمقطم إدارة وتطوير المنطقة إلى شركة إيطالية لاستغلاله كمنتزه ومصيف لمدة خمسة وعشرين عامًا، فصار مبنى السلاملك فندقًا من الدرجة الأولى، واستخدم الدور الأرضي من مبنى الحرامليك كازينو وناديًا ليليًا، وذلك بعد أن تم إخلاء القصور من محتوياتها من تحف وأثاث ومفروشات والاستغناء عنها وبيعها بالمزاد بواسطة بيوت المزادات العالمية مثل "سوثوبي"، وقد وتم هدم مدرسة الأميرات وإنشئ مكانه فندق "فلسطين"، والذي قام بتصميمه المكتب الهندسي لجهاز القوات المسلحة وتم بناؤه في وقت قياسي ليستقبل وفود مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في الإسكندرية عام 1964.
أما شواطئ المنتزه فقد أقيمت حوالي 580 كابينة تؤجر للراغبين في السنة وأطلقت علي تلك المجموعات أسماء مثل عايدة وإيزيس ونفرتاري ونفرتيتي وكليوباترا وسميراميس، وقام بتصميمها المهندس الإيطالي "بيترو بورسياني"، وأشرف على تنفيذها المهندس "بيترو فيربنشيك"، كما أقيمت عدة كازينوهات للترفيه، وأماكن لخلع الملابس على الشواطئ، كما أضيف إلى الموقع نادي رياضي، وكذلك مضمار لسباق الكلاب إلا أن هذا الأخير لم يمكث طويلا.
تؤكد الشواهد الأثرية المكتشفة في المنتزه أن الموقع كان يستخدم منذ العصور اليونانية الرومانية، حيث كان هذا الموقع يعرف بـ"تابوزيريس ميكرا" وكان مقابالًا شرقًا لموقع "تابوزيريس ماجنا" في المنطقة المعروفة الآن ببرج العرب، ويُعتقد أيضًا أنه كان يضم مقبره لأزوريس في مواجهة مقبرة لإيزيس في موقع "أكرا لوخياس"، وهي منطقة السلسة الساحلية الحالية.
وقد بدأت الاكتشافات الأثرية بالموقع في بداية القرن العشرين بواسطة "جيوسبي بوتي" مدير المتحف اليوناني الروماني، واستمرت الاكتشافات بواسطة "أفيرستو برتشيا" المدير التالي للمتحف، حين كان قصر الحرملك تحت الإنشاء 1926، وإشراف مهندسين ومقاولين إيطاليين، وقد ضمت اكتشافات "برتشيا" مقابر ومجموعة من العناصر المعمارية من أعمدة وتاج أثري لتمثال لإيزيس وبقايا مذبح تم عرضها ضمن حدائق القصر.
ومن المعتقد أن المنتزه مثل غيرها من المواقع الساحلية الممتدة شرقًا وحتى كانوب "وهي مدينة أبو قير حاليا"، كانت تضم مقابر وفيلات ومراسي خاصة، إلي أخرة، وهذا ما تؤكده الشواهد الأثرية الحالية في جزيرة الشاي، وكذلك الاكتشافات في منطقة المعمورة والأراضي المجاورة والتي كانت ملك الأمير عمر طوسون وأراضي المعسكرات الساحلية الممتدة حتى أبو قير، والتي مازالت تنتظر المزيد من التنقيب والاكتشافات الأثرية.
مصدر الصور:
1- مكتبة الكونجرس العامة
2- المصورة الالمانية أنجا نيومان
3- المصور الإنجليزي إلياس روفيلو
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية