هنا ستشعر كأنك فى عالم آخر كأن الزمان عاد بك إلى عصر الفتوحات الإسلامية، ، هنا يتجلى العشق الإلهي وتفوح روائح عطرة لتملأ النفوس راحة وطمأنينة.. فتحت التراب يرقد الأولياء و صحابة رسول الإسلام محمد بن عبدالله، وأهل بيته الأخيار.
فعلى غرار أرض البقيع الطاهرة فى المملكة العربية السعودية توجد هنا فى مدينة القاهرة وتحديدًا عند سفح هضبة المقطم بجنوب القاهرة، بقيعًا أخر اختلطت ترابه بجثامين الصحابة الكرام ونسلهم الأشراف، يضاهي في أهميته منطقة أخرى يتواجد علي أرضها بقيعًا ثانيًا في مدينة بهنسا بمحافظة المنيا والمدفون تحت ثراه ٧٠ من الصحابة.
ففى حارة تتزين إحدى بيوتها الأثرية بلافتة زرقاء مكتوب عليها "حارة عقبة ابن عامر"، وأمام حوش كبير تفوح منه روائح طيبة تتزايد كلما اقتربنا ستجد مسجد الصحابى الجليل عقبة بن عامر الجهني، ذلك المسجد الأثرى الذى بُنى فى العصر العثماني، وتحديدًا فى عهد الوالى العثماني محمد باشا السلحدار عام 1066 هجرية، حيث استقبلنا رجل يُدعى مؤمن السيد عوض والذى قدم نفسه على أنه خادم هذا المسجد وكان بمثابة الراوى لنا لتبدأ معه أولي حكايات بقيع مصر.
عند الاقتراب من باب المسجد العتيق، ستشعر للوهلة الأولى إنك انتقلت إلي عالم أخر، حيث الهدوء والسكينة وطيب الهواء، داخلة جزء من مقبرة خضراء اللون، يتسرب من داخلها عطر فائق الجمال، يزداد حلاوة كلما اقتربت منه، كتب عليه "قبر عمرو بن العاص" احد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاتح مصر والذى تولى ولاية مصر لفترتين مختلفتين، مرة فى عهد الخلافة الراشدة أثناء حكم الخليفة عمر بن الخطاب، والثانية فى عهد الخلافة الأموية أثناء حكم معاوية بن أبى سفيان.
فى كتابه "مرشد الزوار الى قبور الأبرار" ذكر مؤلفه "موفق الدين ابن عثمان"، والذى توفى بعد عمرو بن العاص بنحو ستمائة عام، أن هذه المقبرة لعمر بن العاص، وأنه قبل أن يموت أوصي إبنه بأن يُدفن أسفل سفح جبل المقطم علي طريق الحجيج، لذا قبره لا يوجد له شاهد كما كان يُدفن الموتى فى بقيع أرض السعودية فى أوقات الحج.
على بعد خطوات قليلة من مقبره عمرو بن العاص، توجد مقبره أخري ليست اقل أهمية، وهي مقبره الصحابي الذي سُميت علي إسمه تلك الحارة، مقبرة عقبة ابن عامر الجهنى، أحد صحابة الرسول، وأحد أوائل الذين بايعوه عند هجرته إلى المدينة المنورة فى السنة الأولى للهجرة، وكان وقتها شابًا صغير السن يرعى الغنم، وقد ساهم عقبة بن عامر بشكل كبير فى الفتح العربى الإسلامى لمصر مع عمرو بن العاص.
أكثر ما سيلفت انتباهك في مقبرة عقبة ابن عامر الجهنى تلك المرآة السوداء علي الحائط وأمام شاهد القبر، وقد حصل عليها من السيدة عائشة رضى الله عنها، لتخفف عنه حزن وفاة رسول الله في قلب، وحتي يشم رائحته فيها، خاصة بعد أن علم أنها مرآة الرسول.
بمجرد الخروج من بهو المسجد، واستكمالا لجولتنا في حارة عقبة ابن عامر، نجد قبر أخر لصحابي جليل، وهو أبي ذر الغفاري، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وفقًا لما جاء في إبن ماجه: "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"، أي ما حملت الأرض ولا أظلت السماء أصدق من أبي ذر، كما قال "رحم الله ابا ذر عاش وحيدا ومات وحيدا وسيبعث وحيدا".
علي بُعد خطوات قليلة، تتفرع من حارة عقبة بن عامر حارة أصغر وأضيق، علي طرفية يوجد مسجد صغير، داخلة ثلاثة مقابر، أولها لسيدنا ذانون المصرى، والثانية لسيدنا محمد بن الحنفية ابن سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه وأرضاه، والثالثة كُتب علي شاهدها السيدة رابعة العدوية، تلك المرأة الزاهدة العابدة لله، وما يثير العجب والدهشة أن جميع من فى المنطقة يؤكد أن هذه المقبرة للسيدة رابعة العدوية، رغم أن أهل الاختصاص يعارضون ذلك.
بين حوارى وأزقة حارة عقبة بن عامر، يوجد ضريح الأمام الليث بن سعد الفقيه وإمام المحدثين، وصاحب أحد المذاهب الإسلامية المندثرة، وكان يلقب بفقيه مصر، ويقع الضريح داخل مسجد صغير سمى على اسم الإمام، يحتوى بداخله على ثلاثة أضرحة، ضريح الامام الليث، وضريح ابنه شعيب، وضريح خادمه، ويتخلل المسجد مكتبة صغيرة وغرفة استراحة بها عدد محدود من المقاعد، ويعد هذا المكان من أكثر الاماكن روحانية.
لم يقتصر الأمر علي الصحابة، فسفح المقطم يتسع للكثير من الأولياء والصالحين، علي رأسهم ابن عطاء السكندري قطب العارفين، والذى قال عنه العلماء إنه كان جامعاً لأنواع العلوم من تفسير وحديث وفقه وأصول وغير ذلك، وقد توفى عام 709 هـجرية، ودفن بسفح جبل المقطم بزاويته التى كان يتعبد فيها، وذلك من الجهةِ الْشرقية لجبَانة الإمام الليث، وموازيا لخلوة السيدة نفيسة، إحدى سيدات آل البيت ومن أهل العبادة والعلم.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية