سيكون من الصعب عليك أن تصدق أن القاهرة الخديوية، تلك المدينة التي وصفها الرحالة والمستكشفون الأوروبيون بـ"باريس الشرق"، كانت قبل أكثر من 150 عام مضت مجرد تلال من القمامة تفصل المدينة العثمانية القديمة عن نهر النيل، قبل أن تظهر تلك المباني ذات الطابع الأوربي النادر، مثل مترو، راديو، ديانا، تشيكوريل، شيملا، ديفيز برايان، عمر أفندي، هانو، وعمارة يعقوبيان.. وغيرها من المباني الساحرة.
بمجرد أن تطأ بقدميك أحد شوارع وسط القاهرة، سواء في طلعت حرب، قصر النيل، الفلكي، البستان، شريف، الشيخ ريحان، عماد الدين، عادلي، شامبليون، عبد الخالق ثروت، وغيرها من الشوارع، ستجد نفسك وقد انتقلت فجأة إلي مدينة تنتمي لدولة غربية، فبعد أقل من عقدين أو ثلاثة عقود، بدأت تظهر طرز معمارية تنتمي للقرن التاسع عشر، فلا يوجد مبني أو عقار أو ميدان إلا وهناك لمسة تنتمي للفن الباريسي العريق، مباني سكنية فاخرة ودور سينما كبيرة، ومتاجر كبرى حلت محل المنازل القديمة.
انطلقت مشروع القاهرة الخديوية عام 1863، وذلك علي يد الخديوي إسماعيل، والذي كان يهدف إلي بناء عاصمة حديثة، بعيدة كل البُعد عن تلك المدينة العثمانية، والتي كان يري أنها تنتمي للعصور الوسطي، لذا أصدر قانون بمنح الأرض مجانًا لأي شخص يلتزم ببناء منزل أو عقار عصري حديث مُحاط بحديقة، وذلك مقابل مبلغ كبير من المال، ومنح كل من يرغب في ذلك فترة زمنية لا تتخطي العامين، ومن يفشل يتم سحب الأرض منه.
خلال عقود بناء القاهرة الخديوية قدم مؤرخي الغرب، وعلي الأخص الفرنسيين منهم عدد من المؤلفات والصور التي ترصد قصة تطور القاهرة، وكيف أنها تحولت من القرون الوسطى إلى مدينة عصرية عريقة تحمل الطابع الباريسي، علي رأس هؤلاء المؤرخين تريفور موستين، وريتشارد جي. كاروت، وستانلي لين بول، وديزموند ستيوارت، وغيرهم من المستكشفين والرحالة.
بدأت قصة القاهرة الخديوية بتولي الخديوي اسماعيل حكم مصر عام 1863، ذلك الرجل الذي وصفه تريفور موستين بأنه "ومؤسس مصر الحديثة"، والذي اضطر يومًا للعيش في النمسا لظروف صحية، قبل أن ينتقل إلى باريس لتلقي التعليم، وقد تأثر الخديوي إسماعيل بحياته في أوروبا تأثيرًا كبيرًا، كان أوروبيًا أكثر منه مصريًا، ولكنه كان يحب مصر ويحلم بجعلها بلدًا أفضل لا تقل عن أوروبا.
في عام 1867، دعي نابليون الثالث الخديوي إسماعيل لحضور إحدي معارض البارون هوسمان، أراد إسماعيل للقاهرة ما كان يفعله هوسمان لباريس، وكان يريد القاهرة الأكثر حداثة وحضارة لذا شخصيًا من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسي "هاوسمان" الذي قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية، وكان قد بقي عامين حتى افتتاح قناة السويس، حيث سيدعو جميع قادة وعائدات العالم لرؤية مصر الجديدة، فقد أراد إسماعيل أن يثبت أن القاهرة أوروبية أكثر من إفريقيا، لذا فقد كلف فريقه السابق في باريس علي مبارك باشا رئيس "وزارة الأشغال العامة" لتحديث القاهرة بأسلوب أوروبي.
فجأة وجد علي باشا مبارك نفسه في وضع لا يُحسد علية، فالقاهرة القديمة ذات شوارع ضيقة للغاية، واحياء كثيرة مزدحمة بسكانها، ما جعل هناك شبه استحالة من الاقتراب منها، هنا جاء التفكير في الموقع الحالي لمدينة القاهرة، والتي تفصل المدينة القديمة عن نهر النيل، وهو ما حفز هوسمان لبدء العمل وتحويل القاهرة إلأي باريس الشرق، مع الحفاظ علي طبيعة القاهرة التاريخية والتي لا يوجد لها أي مثيل في العاصمة الفرنسية.
ولتزين القاهرة الحديثة بأفضل الحدائق، قام الخديوي اسماعيل بالاستعانة بمهندس الحدائق والمتنزهات الفرنسي جان بيير باريليت دي شامب، والذي صمم تشامب دي مارس وبوا دي بولجن، ليقوم بتصميم العديد من الحدائق والمتنزهات في مصر، كانت أهمها علي الأطلاق حدائق الأزبكية، تلك المنطقة التي تحولت حديقة باريسية، حيث زرعت بأشجار قام الخديوي باستيرادها من الهند وأستراليا وكوبا ومدغشقر والبرازيل، كما أضيئت الحديقة التي تبلغ مساحتها عشرين فدانًا بـ 2500 طائرة من الزجاج على شكل خزامى، والتي قام إسماعيل بتثبيتها في نفس الوقت الذي استحوذت عليه باريس.
أما عن الأساليب المعمارية التي اعتمدت عليها القاهرة الخديوية، فقد شهدت القاهرة تنوعًا متحفيًا عالمي الطرز المعمارية، فقد كانت مصر في تلك الفترة قبلة للمهندسين المعماريين القادمين من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإنجلترا، بالإضافة للمعماريين المصريين أنفسهم، ما خلق تنوعًا مختلفة من الطرز المعمارية، ما جعلها تتسم بالثراء في التصميم والزخارف، فمبني شواربي باشا علي سبيل المثال، والذي قام بتصميم بنائه المهندس المعماري اللبناني حبيب عيروت عام 1925، يحتوي على قبة تبدو في بدايتها وكأنها قبة باريسية، ولكنها في واقع الأمر عبارة عن 4 تماثيل للروايات المصرية القديمة المصممة على طراز آرت ديكو.
مع تلك العمارة الحديثة انفتحت القاهرة على العالم الغربي، بل وأصبحت مكانًا ساحرًا اختار العديد من الأوروبيين والأمريكيين للعيش فيه، جذب اقتصادها التجار والمضاربين والحرفيين والمغامرين والكتاب، لذلك لن نندهش حينما رصد مؤرخي الغرب الأوروبي البقال اليوناني والإيطالي، والحلواني النمساوي، والصيادلي الإنجليزي، وصاحب الفندق السويسري، ومالك المتجر اليهودي.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية