"التشريح".. فرع من فروع علم الأحياء، وهو المعني بدراسة بنية الكائنات الحية وأجزائها، ويرتبط عادة بعلم الجنين، والتشريح المقارن المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيولوجيا التطورية وعلم الوراثة العرقي، ما يعني أن تشريح جسم الإنسان يُعد أحد العلوم الأساسية من الطب.
وكعادة كل العلوم التي ظهرت على سطح هذا الكوكب، كانت البداية في أرض الأهرام والنيل، فقد كشفت أوراق البردي، كيف أن الأطباء المصريين القدماء كان لهم السبق في هذا العلم، وكيف أنهم كشعب ينتمي لواحدة من أرقي الحضارات فى ذلك الوقت، بدءوا ممارسة الدراسات التشريحية، وكان ذلك بمثابة أول تحرك علمي حقيقي ينَبَع من الإنسانية نحو تطوير فهم التشريح، ما أدى إلى وضع دراسة لعلم التشريح لأول مرة فى التاريخ الإنساني.
وقد بدأت دراسة علم التشريح في مصر القديمة في بداية 1770 قبل الميلاد، أي منذ 3787 سنة، وهو التاريخ الذي كُتبت فيه بردية "إدوين سميث" الجراحية، تلك البردية التي أظهرت أن القلب وأوعيته والكبد والطحال والكليتين والرحم والمثانة، كانوا معروفين، وأن الأوعية الدموية تنبع أو تتأصل من القلب، كما تحدثت البردية عن أوعية أخرى بعضها ينقل الهواء، وأخرى تنقل المخاط، ووعاءان يتجهان إلى الأذن اليمنى، هذان الوعاءان اعتقدوا أنهما يحملان "أنفاس الحياة"، ووعاءان يتجهان إلى الأذن اليسرى يحملان "أنفاس الموت"، كما أن بردية "إيبرز"، والتي خرجت إلى النور عام 1550 قبل الميلاد، كتبت هي الأخرى عن القلب، فذكرت أن القلب هو مركز إنتاج الدم، ويتصل به أوعية تصله بكل عضو في الجسم، وإن كان المصريون القدماء لم يعرفوا سوى القليل عن وظائف الكلى، كما اعتقدوا أن القلب نقطة التقاء عدد من الأوعية التي تنقل كل سوائل البدن، كالدم والدموع والبول والحيوانات المنوية.
المؤرخ المصري الأشهر "مانيتون"، منذ أكثر من 2250 سنة مضت، سجل في كتابه "تاريخ مصر"، عملاً قام به عالم تشريح قديم، وأوضح مانيتون في كتابه أن "الفرعون جر" كان عالم تشريح، كما ورد أنه كان أول من قدم دراسة مكتوبة عن التشريح بعنوان "الطب العملى والتشريحى" غير الموجود، على الرغم من أن هذا النسب يُعد ملاحظة شرفية تشير إلى أن الكتاب تمت كتابته فى عهد الفرعون.
وفي الإسكندرية، أسس الجراح "هيروفيلوس الخلقدوني"، والذي عاش خلال الفترة من 335 حتي 280 قبل الميلاد، أول مدرسة من نوعها لتعليم التشريح، لذلك يُعرف في كثير من الأحيان بـ"أبو علم التشريح"، ولا ننسي أن الحضارة المصرية كانت مسؤولة عن ظهور المصطلحات، والتى تم إطلاقها على أجزاء الجسم الخارجية، فى الوقت الذى كان فيه المهتمون بدراسة أجزاء الجسم على دِراية فقط بـ"ميتو"، والتى كانت تشير إلى القلب، حيث كان محور الاهتمامات التشريحية القديمة، وكذلك المجالات الأخرى ذات الصلة بالتشريح فى مصر القديمة.
التشريح عند العرب
عرف أطباء العرب قديماً، من الأعضاء ما هو متشابه الأجزاء، وسموها الأعضاء البسيطة، وهى ما نعرفه اليوم بالأنسجة، وعرفوا الأعضاء المركبة مثل اليد التى تجمع عددا من الأنسجة المختلفة، وفرقوا بين الأعصاب الحركية والحسية، وعرفوا الأوتار والأربطة والدماغ، وفرقوا بين الأعصاب والأوتار فى مثل إصابات الرسغ، وهو تفريق مهم ولا يزال رأيهم فيه صحيحاً، كما عرفوا عن طريق التشريح وظائف الأعضاء فى جسم الإنسان، وذكروا أن أجسام البشر تشتمل على سوائل مهمة جداً كالدم والبلغم والمخاط.
وتؤكد أغلب الدراسات أن العرب كانت لديهم المبادئ التشريحية البسيطة خلال العهد الراشدى، وما يدل على ذلك ما ذكره المؤرخ السوري "ياقوت الحموي" أثناء حديثه عن حادثة اغتيال علي رضى الله عنه، قال نصاً: "لما جرح علي ابن أبى طالب، وجمع له الأطباء لما ضربه عبد الرحمن بن ملجم، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السكونى الكوفى المعروف بـ"ابن عُمريا"، أخذ "أثير" رئة شاة حارة فتتبع عرقا فيها، فاستخرجه وأدخله فى جرح الأمام علي رضى الله عنه، ثم نفخ فى العرق، واستخرجه فإذا عليه بياض الدماغ، إذ إن الضربة وصلت إلى أم الرأس.
ما شرحه "ياقوت الحموري" يدل على التمرس والدراية الكافية بأعضاء جسم الإنسان الداخلية، التى لم يمكن اكتسابها إلا عن طريق التشريح، كما لو نظرنا إلى فائدة الحجامة والفصد والعروق التى تفصد من الناحية التشريحية، والتى مارسها العرب بشكل واسع منذ وقت مبكر، لأدركنا أن الأطباء العرب كانت لهم بعض المعلومات الجيدة فى هذا المجال، فقد عرفوا منذ القديم عدد العروق المتواجدة فى جسم الإنسان، والتى عادة ما تفيد في علاج بعض الأمراض، ووصفوها وصفاً جيداً.
وكان على رأس الاختبارات التي يؤديها الطبيب اختبار في علم التشريح يسمى محنة، فعلى سبيل المثال، يقول أعظم أطباء العصر الذهبي "أبو بكر الرازي"، في كتابه "محنة الطبيب": "فأول ما تسأله عن التشريح ومنافع الأعضاء، وهل عنده علم بالقياس وحسن فهم ودراية في معرفة كتب القدماء، فإن لم يكن عنده ذلك، فليس بك حاجة إلى امتحانه في المرضى، وإن كان عالماً بهذه الأشياء، فأكمل امتحانه حينئذ في المرضي".
وقد برع الطبيب الأندلسي "ابن طفيل"، والذي عاش في الفترة من 1105 حتي 1185 ميلادية، في تشريح الأجسام الميتة والحية، وقد شرّح ظبية حية وشق عن قلبها، وذكر أن الدم الموجود في القلب كالدم الموجود في سائر الجسد، وأنه متى سال من الجسم جمد، كما شرّح الأطباء المسلمون عيون الحيوانات، واكتسبوا من ذلك خبرة، وقد وضع "ابن عيسى" رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة والباطنة، تُرجمت إلى اللاتينية، وكانت ذات أثر بالغ في أوروبا بالقرون الوسطي.
ألف ليلة وليلة
ومن أمثلة ما ورد فى كتب الأدب من مفردات تشريحية، ما جاء فى حكايات "ألف ليلة وليلة"، فى قصة الجارية "تودد"، التى عرضت على الخليفة "هارون الرشيد" بثمن باهظ، لأنها تتصف بدرجة كبيرة من الذكاء إلى جانب الجمال، فأراد الرشيد امتحانها فكلف بذلك بعض العلماء، وكان من بين الأسئلة التى عرضت عليها أسئلة طبية تشريحية، فأجابت عن كيفية خلق الله الإنسان، وكم فى جسده من عروق، وكم عظمة فى فقراته، وأين أول العروق؟، خلق الله للإنسان سبعة أبواب فى رأسه، وهى العينان والأذنان والمنخران والفم، وخلق فى الأنسان ثلاثمائة وستين عرقا، ومائتين وأربعين عظما، وخلق له قلبا، وطحالا، ورئة، وأمعاء، وجعل الرئة مروحة للقلب، وجعل الكبد فى الجانب الأيمن محاذٍ للقلب، وخلق ما دون ذلك من الحجاب والأمعاء وركب ترائب الصدر وشبكها بالأضلاع، وجعل فى الرأس ثلاث بطون، وهى تشتمل على خمس قوى تسمى الحواس الباطنية، وهى الحس المشترك والخيال والمتصرفة والواهمية والحافظة.
ومن الكتب العلمية الأدبية التى تناولت علم التشريح كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزوينى، حيث ورد فيه تشريح لجسم الإنسان عضواً عضواً، فقد ذكر المؤلف فيه بالتفصيل وظيفة العين، والعصب البصرى، وكيفية الإبصار، والعضلات المحركة للعين والجفون والأهداب، كما وصف وصفاً تشريحياً للأنف والأذن والشفتين والفم، وتحدث عن الشعر واللحية، كما تحدث عن تشريح العنق والمرىء والقصبة الهوائية، وتناول وظيفة القفص الصدرى والأضلاع واليدين والعمود الفقرى والساقين، كما ذكر تشريح الأجزاء الداخلية فى جسم الإنسان، ووصف الدماغ والقلب والكبد والقناة الصفراوية والمرارة والمعدة والكلية.
العجائب العشرة
أما عن العجائب العشرة التي أثر بها العلماء المسلمون في مجال علم التشريح، فكان اكتشاف العالم الدمشقي "ابن النفيس" للدورة الدموية الصغرى التي تجري في الرئة، ويمر الدم خلالها من الشريان الرئوي إلى القلب، ما مهد الطريق للبريطاني "ويليام هارفي" ليكتشف الدورة الدموية الكبري، الأمر الذي أهله لتأسيس علم وظائف الأعضاء، والوقوف على تركيب الرئة والأوعية الشعرية، ووصف الشريان الإكليلي ووصف الدورة الدموية فيه، وإثبات أن للقلب بطينين فقط، كما أنه أثبت عدم وجود أي هواء أو رواسب مع الدم في شرايين الرئتين، مخالفا بذلك رأي جالينوس.
علماء التشريح المسلمون انتقدوا وصف جالينوس للهيكل العظمي، فقد بيّن عبد اللطيف البغدادي، والمتوفي عام 1222، أن الفك الأسفل قطعة واحدة وليس قطعتين بعد أن فحص أكثر من 2000 جمجمة بشرية، كما اكتشف الطبيب العراقي "ابن القف الكركي"، والمتوفي سنة 1286 ميلادية، عددا من الأغشية القلبية ووظيفتها واتجاه فتحاتها لمرور الدم، كما عرف العلماء المسلمون أن الدم يجري إلى الرئتين ليتجدد، ويتشبع بالهواء وليس لمدهما بالغذاء، وهذا ما أكده وليم هارفي فيما بعد، بالإضافة إلى تأكيدهم على وجود اتصال بين الشرايين الموجودة في الرئتين وأوردتهما حتى تتم الدورة الدموية داخل الرئة.
الغريبة أن الأطباء المسلمين لاحظوا أن "تشريح العروق الصغار في الجلد يعسر في الأحياء لتألمهم، وفي الموتى الذين ماتوا بسبب أمراض تقلل الدم كالإسهال والنزف، ويسهل فيمن مات بالخنق.."، وهذا قريب مما يؤكده علم الأمراض أو "الباثولوجيا" حالياً، كما أنهم اكتشفوا أن جدران أوردة الرئتين أغلظ كثيرا من جدران شرايينها، وأنها تتألف من طبقتين، بالإضافة إلى براعتهم في تشريح العيون وإجراء العمليات الجراحية فيها، فقد بين "ابن سينا" أن العضلات المحركة لـ"مقلتي العين" ستُ، أربعُ منها في جوانبها الأربعة فوق وأسفل المآقي، وقال ابن النفيس: "إن العين آلة للبصر وليست باصرة، ومنفعة هذه الآلة تتم بروح مدرك يأتي من المخ"، وهذا ما أثبته العلم الحديث حالياً، حيث ينقل العصب البصري الصورة إلى الدماغ الذي يقوم بدوره بتفسير المرئيات.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية