في اللحظة التي استقر فيها حكم مصر للفاطميين، وبمجرد أن خرج مهنئوه على عرش مصر، وقف رابع الخلفاء المعز أبو تميم معد بن منصور الفاطمي وسط رجاله، يتطلع بعينيه إلى سورها الشمالي، كانت اللحظة التي انتظرها سنوات طوال، اليوم تحققت، أضحت مصر كلها ملك يمينه، والآن سيجعلها مركزاً للعالم الإسلامي، وسيسجل التاريخ أن الثامن من رمضان لسنة 362 هجرية، كان اليوم الذي وضع فيه حجر الأساس لتشييد عاصمة الشرق والمدافع عنه "القاهرة".
تلفت المعز لدين الله الفاطمي يميناً ويساراً، كان مُعجبا بذلك الموقع الاستراتيجي الذي شيد فيه جوهر الصقلي قصر المُلك، فأشار لقائده قائلاً: "هنا سنبني عاصمة المُلك الإسلامي، قاهرة المعز لدين الله، قاهرة ستقهر أعداء الأمة الإسلامية، سيكون هناك بابان أمام قصري هذا، باب تخرج منه جيوشي فاتحةً لمُلك الأعادي، أسمية باب الفتوح، وأخر استقبل منه جُنْدي العائدين منتصرين، أُسمية باب النصر"، ثم أشار إلى الجنوب قائلاً: "وهناك يا قائدي سأُهدي "زويلة" باباً لأنهم أعانوني في فتح مصر"، وما بين النصر والفتوح شمالاُ وزويلة جنوباً، شيد الصقلي شارع المُعز لدين الله الفاطمي.
بين بابين
"متحف آثري بحجم شارع يحكي تاريخ أمة.. ألف عام من القوة والضعف.. السيطرة والاحتلال".. هكذا يمكن وصف شارع المُعز لدين الله الفاطمي، ذلك الشارع الذي لم يكن مسموحاً للعامة من الشعب دخوله، إلا بتصريح خاص، على أن يخرج قبل غروب الشمس، يعود تاريخ إنشائه إلى عام 969 للميلاد، نفس تاريخ القاهرة الفاطمية، يحدها بابا النصر والفتوح شمالا، وشارع باب الوزير جنوبا، وشارع الدراسة وبقايا أسوار القاهرة شرقا، وشارع بورسعيد غربا.
كان شارع المعز التاريخي وقتدئذ يقع على جانبه القصر الفاطمي الكبير والصغير، وعلى ناصيته الجامع الكبير، منه تخرج مواكب الخلفاء أثناء الصلوات الجامعة، الجمعة والأعياد، والأنشطة والاحتفالات، ويمتد من باب الفتوح مروراً بمنطقة النحاسين، ثم خان الخليلي، فمنطقة الصاغة، ثم يقطعه شارع جوهر القائد، الموسكي، ثم يقطعه شارع الأزهر مروراً بمنطقة الغورية والفحامين، ثم زقاق المدق والسكرية لينتهي عند باب زويلة، ويعتبره الكثير من خبراء الآثار نموذجاً لتاريخ مصر المعماري الإسلامي، وأنه يعطي الملامح الحقيقية لطراز العمارة الفاطمية، وصولاً لحكم محمد علي، ما جعله أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم.
عُرف شارع المُعز بعدة أسماء أخري، أهما شارع "الأعظم"، وشارع "القاهرة"، وشارع "القصبة"، ضم عددا كبيرا جداً من المحلات التجارية، يصل إلى 1200 محلا ضخما طبقاً للمؤرخين، ورغم ذلك اتبع بروتوكولاً خاصاً به، فقد وضعت الدولة الفاطمية بعض المحاذير لكل من يمر من ذلك الشارع الملكي، أهم تلك المحاذير، منع مرور أي دابة سواء أكانت جملا أو جوادا محملاً بالبضائع دون أن تغطي سقايتهم، كما ألزم القانون فى وقتها أصحاب الدكاكين بإنارة القناديل أمام متاجرهم طوال الليل، وأن يوضع عند كل دكان "زير" يملأ بالماء، وذلك للسيطرة على الحرائق فى حال نشوبها، كما تم تخصيص عمالة متخصصة لجمع القمامة والحراسة.
ويعتبر شارع المعز عصب مدينة القاهرة منذ نشأتها، ويضم مجموعة من أجمل الآثار الإسلامية فى العالم، والتى يبلغ عددها حوالى 29 أثراً، لينفرد الشارع بجمال خاص وزخرفة نادرة، وتتنوع ما بين المساجد والمدارس والمدافن، وعدد من الكتاتيب والقصور، ويضم الشارع أيضا آثارا من العصر الشركسى والعثمانى ثم عصر محمد علي، فمن مسجد الحاكم بأمر الله، إلى بيت السحيمي، لمسجد الأقمر، مرورا بقصر الأمير بشتاك، ومسجد حسن كتخدا الشعراوي، إلى مجمع قلاوون، فسبيل كُتاب خسرو باشا، وخان الخليلي، بجانب مدرسة الأشرف برسباي، ومجمع الغورية، مع سبيل طوسن باشا، إلى غيرها من الأثار التاريخية المهمة.
نظرة متفحصة على شارع المعز لدين الله الفاطمي، ستجعلنا ندرك مدى الأهمية التاريخية لذلك الشارع، ما يحتوية من آثار يعود لكل العصور التي مرت على تلك العاصمة طيلة ألف عام، فأغلب القيم التخطيطية والمعمارية تعود إلى عصور متوالية، منذ أُنشئت القاهرة الفاطمية، مرواً بالعصر الأيوبي، ثم دولتي المماليك البحرية والبرجية، وهي فترة العصور الوسطى التي تمتد من القرن العاشر حتى القرن السادس عشر، ثم عصر الدولة العثمانية، وأخيرا الدول الحديثة ودولة محمد علي.
أبرز المباني
أما عن أبرز المباني الأثرية والتي تم بناؤها طيلة ألف عام مضت، فيأتي على رأسها بالطبع باب الفتوح، والذي تم بناؤه عام 480 هجرية، 1087 ميلادية، ويُعد أحد بوابات أسوار القاهرة، وقد أنشئ للسيطرة على مداخل القاهرة الفاطمية، بأبراج من الحجر، وباب زويلة، 485 هجرية 1092 ميلادية، ويتكون من كتلة بنائية ضخمة ارتفاعها 24 متراً عن المستوى الأصلي للشارع.
هناك أيضاً عدد من المساجد الأثرية المهمة، على رأسها جامع الحاكم بأمر الله، والذي بدأ بناؤه في عهد العزيز بالله الفاطمي عام 379 هجرية 989 ميلادية، وتوفي قبل إتمامه، فأتمه ابنه الحاكم بأمر الله 403 هجرية، لذا نُسب إليه وصار يعرف بجامع الحاكم، وهو ثاني مساجد القاهرة اتساعاً بعد مسجد ابن طولون، ومسجد وسبيل وكُتاب سليمان أغا السلحدار، أحد أروع وأندر المساجد الأثرية بطرازه المعماري الذي جعل منه لؤلؤة المنطقة التي تزخر بالآثار الإسلامية، بدأ الأمير سليمان أغا السلحدار، في عهد محمد على باشا الكبير، تشييده سنة 1253هجرية 1837 ميلادية، وقد شُيد المسجد على طريقة المساجد العثمانية، وهو مقسم إلى ثلاثة أروقة، وملحق به سبيل ماء وكُتاب لتعليم القرآن والدين، وعدة حجرات أهمها حجرة السبيل.
يضم الشارع أيضاً جامع الأقمر، وهو من أصـغر مسـاجد القـاهرة، بني عام 1125 ميلادية، ويعتبر تحـفة معمـارية أصيلـة، ويُعد المسجد الوحـيد الـذى ينخفـض مستـواه عن سطح الأرض، كما أنه أول جامع توازي واجهته خط تنظيم الشارع بدلا من موازاة للصحن، لتتخذ القبة وضعها الصحيح، وسُمي بهذا الاسم نظراً للون حجارته البيضاء التي تشبه لون القمر، بالإضافة إلى سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا، ويرجع إنشاؤه إلى عام 1744 ميلادية، وأنشأه الأمير الكبير عبدالرحمن كتخدا، ويتكون من غرفة سبيل لتزويد العابرين بالماء، ويعلوه غرفة الكُتاب لتعليم الأيتام من المسلمين.
أما قصر الأمير بشتاك، فأنشأه الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، وهو من أفخم مباني القرن الثامن الهجري، ويتكون من ثلاثة طوابق، وبه رسومات هندسية تمثل عند المعماريين آية للجمال، وسبيل وكُتاب خسرو باشا، والذي بُني عام 943 هجرية، 1535 ميلادية، ويعتبر أقدم الأسبلة العثمانية الباقية بمدينة القاهرة، ورغم إنشاءه في العصر العثماني، إلا إنه يُعد امتداداً للنموذج المحلي المصري في تخطيط الأسبلة، وهو مستقل وغير ملحق بأبنية أخري.
مدرسة وقبة نجم الدين أيوب، أنشأها آخر سلاطين الأيوبيين، الصالـح نجم الدين أيوب، وتـقع إلى الـشرق بين شارع الصاغة وبين القصرين، لتدريس المذاهب الأربعة في مصر، بدلاً من المذهب الشيعي، والذي كان يدرسه الفـاطميون، ولم يـبق من المدرسـة سـوى الواجهة الـرئيـسيـة، والتي تتـوسطهـا المئذنة وأجــزاء من الإيوان الغربي، بالاضافة إلى سبيل محمد على بالعقادي، والذي أنشئ عام 1820 ميلادية، بواجهة نصف دائرية، يظهر فيها مدي التأثر بالفن الأوروبي، فالواجهة مكسوة بالرخام الأبيض أما الشبابيك الخمس، فمصنوعة من النحاس المصبوب، ويعلو كل شباك لوحة رخامية تعلوها زخارف، ويتغطي السبيل قمة من الخشب المغطي بألواح من الرصاص.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية