"فريسكا.. فريسكا".. تقترب الفتاة من هذا البائع الذي يحمل علي كتفيه صندوقًا زجاجيًا مستفسرة عن سعر الواحدة، فيُجيبها مشيرًا إلي الصندوق السادة بإثنين جني، والمكسرات بثلاثة جني.. زوت الفتاة ما بين حاجبيها مُعلنة عن رفضها لهذا السعر الباهظ.. فلوح البائع بيديه قائلًا: أيوووه طب والمرسي أبو العباس مش هتلاقي السعر ده في أي حته في الإسكندرية".
مشهد معتاد أن تسمعه هنا وهناك، ويبدو أن المرسي أبو العباس من التقديس ليصل إلي درجة اتخاذه قسم لا يحنثونه أبدًا، فطيلة ثمانية عقود مضت ارتبط أهل الأسكندرية بالشيخ "أبو العباس المرسي"، أحد أهم علماء الدين، وأحد أبرز رجالات الصوفية في سلسلة الطريقة الشاذلية، صاحب أشهر مسجد تاريخي في تل المدينة الساحلية، ما جعله يحمل قيمة كبيرة فى قلوب الكثيرين، ليصبح مجرد القسم بذكر أسمه مصدر للثقة والمصدقية.
يقع مسجد أبو العباس المرسي فى حى المساجد فى الأنفوشى، وفى نطاق حى الجمارك الأشهر، والتي كانت قديمًا مجرد جبانةً يُدفن فيها الأولياء، واليوم أصبح أحد أشهر وأهم المزارات الأسلامية فى مصر، ويحظى بالكثير من الزائرين من كل مكان من داخل مصر وخارجها، فهذا المسجد أحد أهم الأسباب التي جعلت من عروس البحر عاصمة للسياحة الدينية.
من ثمانية عقود مضت، وتحديدا في عام 1219، وفي أحدي منازل مدينة مرسية الأندلسة، تقع اليوم في جنوب شرق أسبانيا، وتطل علي البحر المتوسط علي ضفاف نهر شقورة، ولد الشيخ شهاب الدين أبو العباس بن احمد بن حسن بن على الخزراجى الانصارى، كان من أسرة تمتد فى نسبها إلى الصحابى الجليل سعد بن عبادة الأنصارى سيد الخزرج، كما أن جده قيس بن سعد بن عبادة أميرًا على مصر من قبل سيدنا الإمام علي بن أبي طالب سنة 36 هجرية.
أظهر أبو العباس المرسى مبكرًا علامات النبوغ، لذلك قام والده بتوجيهه لحفظ القران وإجاده القراءة والكتابة والحساب منذ الصغر، وبالفعل حفظ القران كاملا فى عام واحد، وتعلم فن التعامل والأخلاقيات والتجارة من أخيه الأكبر عبد الله، ولكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، ففي عام 1242 قرر والده الذهاب الي الحج، مصطحبًا معه شهاب وأخيه وأمه، لتغرق السفينة قبالة السواحل التونسية، ليموت الأب والأم، وينجو هو وشقيقه، فيقررا الإستقرار في تونس للعمل بالتجارة.
وفي احد أيام عام 1242 ميلادية قابل الشيخ الكبير تقى الدين أبو الحسن الشاذلى كبير الطريقة الشاذلية والصوفية وينهل من علمه ويرافقه فى كل مكان، كانت مدينة الأسكندرية في ذلك الوقت، أرضًا لإستقطاب علماء الأندلس وبلاد المغرب العربي، وعندما قرر "أبو الحسن الشاذلي" المجيء إلي مصر عام 1244 ميلادية، اصطحب معه أبو العباس المرسى، ليستقرا في عروس البحر المتوسط أربعة عقود كاملة، ويحظى بمكانة معلمه الشيخ الشاذلي بعد وفاته، ويكمل طريقه فى نشر العلوم الدينية والدنياوية بين الناس، ويستقبل الموردين عليه من مختلف أصناف المجتمعات من أغنياء، وفقراء، وعلماء، وأمراء من جميع الأقطار.
فى عام 1281ميلاديا توفى أبو العباس المرسي، وإستقرت رفاته فى مقبرة صغيرة عند الميناء الشرقى بالأسكندرية، أو في منطقة باب البحر، دون مسجد أو مقام حتى عام 1307ميلاديا، حتى زاره كبير التجار فى الاسكندرية الشيخ زين الدين القطان الذى قرر بناء ضريح ومسجد صغير، بل وجعل لها منارة مربعة، وأوقف بعض المال لخدمته، لتبدء اللبنة الأولي لذلك المسجد الأهم والأشهر فى الأسكندرية، وكلما تعرض للأهمال يجد من يلتفت إليه ويقوم بترميمه ويعيد بنائه، مثلما فعل أمير الأسكندرية فجماش الأسحاق الظاهرعام 1477، والذي قام باعادة بنائه، وعام 1863 تم ترميمه وتوسيعه شيئا فشيئا بأمر من شيخ طائفة البنائين.
في عام 1934 حظي مسجد أبو العباس المرسي بأهم طفرة معمارية، فقد أمر الملك فؤاد الأول بعمل ميدان للمساجد تصل سعته إلي حوالي 3200 متر مربع، علي أن يضم مسجد الامام البوصيرى والشيخ ياقوت العرش، ويتوسطهم مسجد ابو العباس المرسي، ويقوم بتنفيذ هذا المشروع مهندس معمارى ايطالى يدعى "ماريو روسى"، جاء إلي مصر شابًا صغيرًا في منتصف العشرينات من عمره، وكان يعمل فى وزارة الأشغال المصرية ويشرف على القصور الملكية.
ماريو روسى، هذا الشاب الذى قضى 16 عامًا حتى ينهى بناء مسجد أبو العباس المرسى، وفى هيئتة الحالية على الطراز الاندلسي، وبطريقة مبتكرة قضى تلك الفترة يدرس بشغف العمارة الاسلامية على مدار العصور ليخرج تلك التحفة المعمارية، ليتم تصنيف المسجد علي أنه بداية ظهور العمارة الأسلامية الحديثة فى مصر بتصميمه المثمن الفريد من نوعه فى مصر، والإستغناء عن وجود الصحن الاوسط للمسجد دون أن يؤثر ذلك على الإضائة الطبيعية ومساحة المصلى.
مسجد المرسي أبو العباس رغم أنه ذو شكل مثمن، إلا أن مصممه راعي أن يكون منتظم الشكل من الداخل، حيث يصل طول كل ضلع من أضلعه إلى 22 مترًا، يتميز بلونه القشدى والنقوش والزخرفة التى تغمر أحجارة الإصطناعية من كل الإتجاهات من الخارج بنسب متساوية، وعند الدخول من المدخل الشمالى أو الشرقى، سنجد أن الزخارف تحيط بكل الأركان الداخلية أيضًا، كما يكسوا الرخام الأبيض الأرضيات، جدرانه ذات مزيج رائع بين الحجر الأصطناعى من الأعلى، ومن الأسفل مغطى بالموزايكو، وبأرتفاع خمسة أمتار، وفي أعلى سقف المسجد، وعلي ارتفاع 17 متر، نري نقوش عربية وتعشيقات الأرابيسك والفسيفساء، والمشربيات وفتحات التهوية التى تحف المسجد من كل الإتجاهات.
يتميز الطراز الأندلسى، والذي بُني عليه مسجد المرسي أبو العباس، بالقباب وكثرة الأعمدة التى تحمل السقف، والمئذنة شاهقة الأرتفاع، وأيضا أعمال الأرابيسك والفسيفساء فى النوافذ والأبواب، والمحراب المزخرف والمرتفع عن المنبر، كل ذلك ظهر جليا داخل مسجد أبو العباس المرسى، حيث يحتوى على 16 عمودًا من الرخام والجرانيت، وكل عمود قطعة واحدة مثمنة الشكل، ينتهى بتاج يبلغ أرتفاعة ثمانية أمتار تقريبا، أربعة أعمدة منها من الجرانيت الوردى، صممت خصيصًا فى إيطاليا من أجل حمل قبة المسجد الواقعه فى الضلع القبلى منه.
في كتابة "المساجد"، قال الدكتور حسين مؤنس، أن قبة مسجد أبو العباس المرسى، تُعد أجمل قبة مسجد فى مصر بأسرها، فهى مزينة بزخارف منحوتة فى الحجر الخارجى، إلى جانب نقوشها الداخلية متناهية النظير، يبلغ أرتفاعها 26 مترًا يتدلى منها ثرايا تتكون من بضعة أطنان من البرونز والنحاس بالأضافة إلى البلورات البراقه، ويحيط بتلك القبة أربع قباب صغيرة تعلو أضرحة الشيخ وثلاثة من تلاميذة.
أما منبر المسجد ذو القبة المرصعة بآيات من القران الكريم رسمت حروفها بالذهب الفرنسى، وقد تم استخدام خشب التيك والجوز المعشق والساج والليمون، فى هذا المنبر وأبواب المسجد ونوافذه، بجواره يقع المحراب ذو الاطار الرخامى المزين بالفسيفساء تحيط به "لا اله الا الله محمدا رسول الله"، ومكتوبة بالخط الكوفى، على جانبى القبله يوجد عمودين من الرخام المصرى يحمل اسم رسول الله محمد "صلى الله علية وعلى اله وصحبه وسلم"، وتتميز عن غيرها من محاريب مساجد مصر بالأرتفاع الشاهق عن المنبر، خلف تلك القبلة من الخارج يقع السبيل وفوقه الكتاب، وبذلك تم الحفاظ على المكونات المعمارية المتعارف عليها فى المساجد، فى هذا العصر والعصور الإسلامية السابقة.
الأرتفاع الشاهق تراه جليا فى مئذنة المسجد الرشيقة، والتى تقع فى الجانب الجنوبى ذات القاعة المربعة لتكمل إرتفاعها بشكل دائرى حتى يصل طولها إلى 73 متر، مزخرفة بالنقوش الحجرية الدقيقة ويتوسطها ساعة، أما باقى ملحقات مسجد أبو العباس المرسى توجد فى الجانب الغربى منه، حيث تجد الميضاء ويعلوها مصلى للنساء بمدخل خاص، وتطل على صحن المسجد من خلال النوافذ والمشربيات يستطعن سماع القران والخطب وإتباع الأمام فى الصلاة، وهن بعيدات عن أنظار المصلين، يرتفع المسجد ككل عن مستوى محيطه ما يقارب ثلاثة أمتار، تم إستغلالهم فى عمل دور أرضى كان يستوعب ما يقارب ثلاثة آلاف لاجىء أثناء الغارت الجوية وقت الحروب، ويستخدم أيضا للتهوية لحفظ مستلزمات المسجد الخاصة، ولليوم يظل مسجد أبوالعباس المرسي أيقونة معمارية ليس لها مثيل فى البلاد.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية