"تأتي الشعاب بما لا تشتهي السفن".. منذ ألف عام صاغ "أبو الطيب المتنبي"، ذلك الشاعر العراقي الأشهر، مقولة عُدت قاموسًا لبحارة ما أعقبه من أزمان، "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، كدلاله واضحة علي عائق طبيعي يمكن أن يحول دون سير السفن، ولكنه لم يدرك يومًا أن العائق يمكن ان يأتي من أسفل قاع البحر، فدائمًا ما أتت الشعاب بما لا تشتهي تلك السفن.
قد تعتقد أنه حينما نتحدث عن مقابر السفن، فإننا بالضرورة سنتناول القصص التي عايشتها منطقة مثلث برمودا في المحيط الأطلنطي، أو أننا سنعرض مظاهر تلك الحياة التي تعيشها آلاف الإبل اسفل سفن بحر آرال، أو أننا سنناقش الأوضاع في أكبر أحواض تفكيك السفن المقتولة في كراتشي الباكستانية، أو في ألانج الهندية، أو حتي في شيتاجونج البنجلاديشية، ففي البحار المصرية ما يغنينا عن تلك الأسماء، وإن كانت مجهولة لأغلب المصريين.
علي بعد ما يقرب من 35 كيلو متر، وتحديدا غرب جزيرة شدوان، والمواجهة لمدينة الغردقة، تقع منطقة شعاب أبو النحاس، تبدوا مثلثة الشكل كمثلث برمودا، منطقة هادئة منعدمة الدومات المائية القاتلة، إلا أنها تتميز بالشعاب المرجانية المميتة، والتي مثلت في كثير من الأحيان خطرًا قاتلًا، أذرع من الشعاب لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، رغم انها تتواجد في ممرات السفن نفسها.
حتي اليوم لم يتمكن الباحثون من احصاء عدد السفن، وإن كان البعض يجزم أن عددهم يصل إلي سبعة سفن ضخمة، وهي علي الترتيب، السفينة "إس إس كارناتيك"، والتي غرقت في عام 1896، والسفينة "كيمون إم"، والتي غرقت عام 1978، والسفينة "أولدن"، والتي غرقت عام 1987، والسفينة "تشريسكولا كيه"، وغرقت عام 1981، والسفينة "غيانيس دي"، وغرقت عام 1983، وقد جذبت تلك المنطقة محبي رياضة الغوص والاستكشاف حول العالم طيلة قرن مضي.
منطقة شعاب أبو النحاس، ورغم وجود أكثر من عشرين موقعًا للسفن الغارقة والمُحطمة، إلا أنها تُعد المنطقة الوحيدة التي تحتوي على حطام 5 سفن عملاقة، بعضها يقع على عمق أكثر من 30 متر، تمتلكها هيئة الموانئ البحرية، وتسعى وزارة البيئة للحفاظ علي الحطام في ذلك الموقع، لأن وجودها في القاع يساعد على تخفيف الضغط على البيئة الطبيعية للشعاب المرجانية.
"المنطقة نحس على السفن".. بتلك العبارة يصف الغواصون والصيادون تلك المنطقة، حتى إنهم يؤكدون أن نحسها الذي يلازم السفن ألتصق بإسمها، لذلك عُرفت بـ"أبو نحاس"، إلا أن البعض يؤكد أن اسمها اكتسبته من غرق أحد السفن المحملة بمعدن النحاس، وكما هي العادة، فلكل سفينة غارقة في "أبو نحاس" قصة وحكاية وبلد منشأ وحمولة تختلف عن الأخرى، وإن كانت جميعها تشترك في سبب الغرق، وهو "شعاب أبو نحاس".
وتعد سفينة "كارناتيك" البريطانية هي الأقدم بين السفن الغارقة في "أبو نحاس"، ففي عام 1896، فأثناء رحلتها الأخيرة إلى الهند، اصطدمت بالشعاب المرجانية التي تكسو الممرات، ورغم إصابة السفينة إصابة بالغة، إلا أن قبطانها رفض نزول الركاب على جزيرة شدوان في البداية، لكن مع وصول المياه إلى غلايات السفينة، في الوقت الذي فقدت فيه مضخات المياه، اضطر أخيرا للتنازل عن عناده، وأمر بنزولهم، بعد أن فقد 31 راكبا حياته، منهم 5 ركاب و26 من طاقم السفينة.
كانت تلك السفينة محملة بالذهب والنحاس والنبيذ والقطن، وتمكن البدو سكان المنطقة الأصليين من انقاذ تلك الشحنة في الأسابيع التي تلت غرقها، فاستطاعوا أن يستردوا ما قيمته 40 ألف جنيها إسترلينيا من البضائع، وعادة ما يفضل الغواصون التوجه إلى موقع الحطام، للاستمتاع برؤيته وهو ممتلئ بالمرجان الناعم، والأسماك الزجاجية، وأسماك التمساح، وأسماك الأسد.
وبالقرب منها يمكننا رؤية حطام سفينة "كريسولاك" اليونانية، وهي سفينة تجارية كانت تحمل شحنة من البلاط والأحجار، عندما اصطدمت بشعب أبو نحاس عام 1978، مما أدى إلى غرقها، وهي حاليا ترسو فوق الشعاب المرجانية، تحيط بها العديد من الأسماك الملونة، حتى أن بعض الغواصون يدعون إنها تجذب أسماك الزينة، وفي 12 ديسمبر من نفس العام، اصطدمت سفينة "كيمون إم" الألمانية بتلك الشعاب وغرقت هي الأخرى، وتعد من أجمل السفن الغارقة، ويمكنك الغوص بجوارها، حتى وإن كانت مهاراتك في الغوص متواضعة، لأن سقفها يقع على عمق 6 أمتار من سطح البحر، وقاعها يوجد على عمق 32 مترا.
لم يمر ستة سنوات على غرق "كيمون إم" حتى سقطت "سفينة الشحن اليونانية "تشريسولا كيه" في فخ أعشاب أبو نحاس، وغرقت في 31 أغسطس عام 1981، فبعد يومين من إبحارها فقد ربان السفينة السيطرة عليها، ولفظت أنفاسها في رحلتها الأخيرة إلى جدة، ورقدت سالمة في قاع البحر، محتفظة بصناديق البضاعة التي كانت تحملها حتى الآن، وهي تحتوي على بلاط من السيراميك.
بعد عامين، اصطادت شعاب "أبو نحاس" سفينة "غيانيس دى"، وهي سفينة شحن تابعة لشركة يابانية، بنيت عام 1969، وقامت اليونان بشرائها قبل عامين من غرقها، ففي شهر إبريل من عام 1983 بدأت رحلتها الأخيرة من كرواتيا، لتتوجه إلى المملكة العربية السعودية بشحنة من الأخشاب، وفي طريقها كانت تمر في ممر شحن ضيق، وبمجرد دخولها إلى المياه المفتوحة قام القبطان بتسليم الدفة إلى أحد ضباطه، ويبدو أن السفينة انجرفت منه إلى الغرب من مسارها المحدد، واندفعت بسرعة كبيرة مما تسبب في غرقها، وفي 31 يناير 1987، غرقت سفينة "أولدن" الألمانية بنفس المنطقة.
حقا أن ترى المقتول في أحضان القاتل لتجربة فريدة من نوعها، ولا يفوقها إثارة، وهو ما يمكنك أن تشاهده بعينيك في أعماق "أبو نحاس"، حيث حطام السفن المحاطة بأذرع الشعاب المرجانية البراقة.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية