داخل قفص القرود استيقظت "سامية"، تلك القردة التي جاءت من "غابات الكونغو"، مبكراً على غير عادتها، ثم أسرعت لتيقظ أبناءها "جو" و"نادية" قائلة: "هيا يا أبنائي، استيقظوا، اليوم عيد الربيع.. هيا حتى تشاهدون الإنسان"....!!
عفوا هذه ليست سخرية، ولكنها الحقيقة، فمنذ أن كنا صغار، كلما أردنا التنزه بعد أسابيع، بل وشهور من الدراسة، كان أبي يفكر ثم يفكر ويفكر، وفجأة يهتف قائلًا: "سنذهب إلى حديقة الحيوان يا أولاد".
لم أكن أعلم ما هي أوجه العلاقة بين تلك الحديقة المليئة بأنواع من الحيوانات، وبين كوننا أطفال تريد أن تذهب في نزهة نطلق من خلالها أعباء ضغوط تلك المدرسة، ولكنها رغم ذلك كانت تُسعدنا كون أنها كانت الأمل الوحيد في الخروج من المنزل.
مرت الأيام والسنون، وأصبح لدينا، كما لدي أطفال مصر الذين تربوا في كنف تلك الحديقة العريقة، ألبوم من الذكريات، تارة بجوار ملك الغابة، وتارة بجوار بيت الفيل، وتارة أخري ونحن نطعم الزرافات، لكن دائمًا ما كان يُلح علينا ذات التساؤل الغريب، من يراقب من، هل نذهب إلي تلك الحديقة العتيقة حتى نشاهد الحيوانات والطيور ونستمتع بهم؟ أم أننا نذهب حتى يستمتعوا هم بمشاهدتنا؟، سؤالًا رغم سذاجته دائمًا ما كان يشغل رؤس الجميع منذ طفولتهم، من يراقب من؟، الإنسان أم الحيوان؟.
حديقة الحيوان، هذا المتنزه الأقدم والأعرق، والذي كان واحدًا من أهم الحدائق الضخمة في أفريقيا والشرق الأوسط، وطبقًا للرصد الزمني، يُعد ثالث حديقة حيوان في العالم، وأول حديقة في أفريقيا، تلك الحديقة التي كانت نتاج طبيعي لعلاقة المصري التاريخية بالحيوانات الأليفة والمتوحشة، الزاحفة والطائرة، والتي جاءت لترصد لنا كيف كانت الملكة كليوباترا وملوك الفراعنة القدامى عاشقون لجمع الحيوانات أثناء رحلاتهم في أفريقيا لعرضها في قصورهم، ورغم أن عدد زائريه يتخطى المليون زائر سنويًا، إلا أن أغلب المصريين لا يتذكرونه إلا في الأعياد والمناسبات.
حديقة حيوان الجيزة التي بنيت عام 1891، والتي كانت تسمى في يوم من الأيام، جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا، بإعتبارها أول واعرق حدائق الحيوان في القارة السمراء، أمر بإنشائها الخديوي إسماعيل، على مساحة 85 فدان، وافتتحت في عهد الخديوي محمد توفيق ابن الخديوي إسماعيل، وبدأت بعرض أزهار ونباتات مستوردة غير موجودة في الطبيعة المصرية، وتضم الآن قرابة 6 آلاف حيوان ينتمون إلى 175 فصيلة أو نوع، بالإضافة إلى انتشار جداول مائية، وكهوف، وشلالات مائية، وجسور خشبية، وبحيرات طيور، ومتحف تم بناؤه عام 1906 يحتوي على مجموعات نادرة من الحيوانات والطيور والزواحف المحنطة.
بمجرد أن تتخطى باب الحديقة الرئيسي المجاور لتمثال نهضة مصر، والمطل على شارع شارل ديجول، بعد أن تقطع تذكرة بسيطة قيمتها بضعة جنيهات في يوم مزدحم، لا يمكنك أن تسير في شوارع الحديقة دون الاصطدام بأحد، وقد تجد أصوات صراخ لبعض النساء اللواتي تبحثن عن أطفالهن هنا وهناك.
يبدأ يوم الحديقة، بالكثير من الأصوات المميزة لحيوانات الحديقة، والتي تستقبل به ضيوفها، بعضها فرحًا باللقاء، وأغلبها متذمرًا، فالحديقة رغم وجودها في وسط مدينه مزدحمة، إلا إن تصميمها الفريد، جعلها أشبه بغابة متكاملة، مغلقة بالمئات من الأشجار النادرة، حاولت اقتحام صفوف الزائرين واقتربت من قفص الوعل الأقرب من باب الحديقة لأسأله عن همومه لم يجيب، ولكنه أشار إلى رجل طويل، يحمل مسدس ناري، اقترب مني ليسألني عن وجهتي.
اصطحبني قائد الحرس في البداية إلى الكوبري المعلق، الذي صممه المهندس الفرنسي غوستاف إيفل عام 1911، ويربط بين جبلين بمدخل في الأسفل ومخرج عند قمة الجبل، وأخبرني أن هذا الكوبري يتبع اليوم هيئة الآثار التي أغلقته تمامًا، وأنه أصبح مكانًا محظورًا، لأن حالته المتهالكة جدا أضحت ذات خطورة علي البشر، هؤلاء الذين اعتادوا الحصول علي جزء من مكوناته كتذكار من تلك الحديقة.
انتقلت وقائد الحرس إلى بيت السباع المفتوح، ذلك البيت الذي لا يوجد به سوي أسد آسيوي أبيض واحد، أما باقي الأسود فهم أفارقة الأصل، ونمر واحد، وينقسم البيت إلى جزأين احدهما للعرض داخل الأقفاص الخمسة، والآخر مفتوح للنزهة اليومية، ويسع لأكثر من عشرة آلاف متر مربع، آشبه ما تكون بالغابة الطبيعية الصغيرة، تخرج إليها الأسود ثلاثة مرات أسبوعيًا، في حين تخرج النمور هي الأخري في الأيام الثلاثة الأخري،
تركنا بيت السباع، وسرنا فوق أوراق الأشجار التي تغطي الأرض، وقد صادفنا أنواع كثيرة منها، كالآرز والنخيل، ومررنا على أنواع كثيرة من النسانيس والنعام واللامات والوعل، لفت نظري بيت جديد فارغ من الحيوانات، وعرفت من قائد الحرس أنه بيت إنسان الغاب الجديد، إسمه "بانتو"، يجلس داخلها ذلك الكائن وحيدًا، تم حبسه داخل قفص العرض الجديد، العجيب انه فهم حديثنا، بل ومد كفه الكبيرة خارج القفص يشكوا غربته ووحدته، يرجوني أن أعيد له زوجته، والذي تم حرمانه منها مؤقتًا، وذلك حتى يشعر بالوحدة، وعندما تأتي إليه يشعر بالسعادة لانه وجدها في ذلك المنزل الجديد، ويتعايش معها.
تركنا "بانتو" وتوجهنا إلي جبلاية القلعة، تلك التي تُعد أصل الحديقة، صممها المهندس التركي سايبوس عام 1867، مكسوة بالشعب المرجانية والأشجار المتحجرة والأحجار، يغطي طرقاتها الزلط الملون، تلك الجبلاية واحدة من خمسة جبال بالحديقة، فهناك أيضًا جبلاية الشمعدان وجزيرة الشاي الكوبري المعلق، تم إنشاؤها كاستراحة خاصة للخديوي إسماعيل في حديقة الوالدة باشا، ليستقبل فيها ضيوفه من الأمراء والوزراء، تم تصميمها على شكل بيضاوي من الداخل، بها أريكة مرسوم عليها علم مصر مخصصة للخديوي وزوجته، وأخرى في أقصى اليمين وغيرها في أقصى الشمال مخصصة لضيوفه من الأمراء، بالإضافة إلى أربع كراسي للوزراء، وفي منتصف السقف يوجد منارة صغيرة تعظم الصوت وتجعل له صدى، كما يوجد كرسيين على باب الاستراحة للحرس.
صعدنا جبلاية القلعة ذات التصميم الفريد، واستخدمنا في ذلك تلك المطالع المنحدرة، والتي تم تصميمها للاستغناء عن الدرجات السلمية، ورغم أنها تتبع وزارة الأثار منذ أكثر من خمسة أعوام، تم إغلاقها أمام الزوار، المصريين والأجانب، فأضحت مهجورة لا يعلم عنها أحد، جدرانها مصممة على أشكال الحيوانات، رغم إنها أنشئت قبل أن يفكر الخديوي في تحويلها إلى حديقة حيوان، ليكون ذلك التصميم دليلا على حبه الشديد للحيوانات، قديمًا كان يصل إلى قمة الجبلاية خط من النيل لتروي الجبلاية نفسها في صورة شلال طبيعي، ويوجد خلفها حوض كان يستخدمه الخديوي كحمام سباحة، ولكنه اليوم يستخدم كحوض للبجع الأبيض.
انتهيت من رحلتي إلي الجبلاية لأتوقف أمام بيت الفيل، والتي لا يوجد بها سوى أثنين من الفيلة، أحدهما أنثي هندية الأصل، والتي تعودت علي الإنتقال بمفردها كل صباح إلى قفص العرض، حيث يلتقي بها جمهور الحديقة، ثم تعود مساءا إلى بيتها بمفردها دون حرس، أما الفيل الأخر، وهو أنثي ايضًا، فهي أفريقية النوع، وتظل في البيت لا تخرج مثل الهندية، صغيرة السن، تبلغ من العمر 30 عام فقط، ومنذ عشرة أعوام جائت تلك الفيلة مع فيل ذكر، ولكنه توفى، والفيلة في الغالب لا تتألف مع ذكر آخر بسهولة، ويصل الحد إلي قتل بعضهم البعض.
"الحديقة ليست موقعًا للتنزة فقط، ولكنها أيضًا للبحث العلمي".. هكذا أبلغني قائد الحرس، لذلك يوجد داخل الحديقة مركز علمي متكامل، هدفة الأول والأخير دراسة حيوانات الحديقة، ومدي تأثرها بالبيئة الجديدة، ونوعية الطعام، وحالتها النفسية والجثمانية، وهو عبارة عن معمل مكون من طابقين، الأول لاستقبال أكثر من 1700 من العينات يوميًا لفحصها، بالإضافة إلى الحالات المرضية التي لا تنتظر الفحص الدوري، بل تؤخذ منها العينات فورًا، والثاني لمختلف معامل الفحص واعدام الفيروسات، وأخيرًا مشرحة فحص الحيوانات النافقة لتحديد سبب الوفاة، بالإضافة إلي وحدة السموم والمسئول عن تحضير الأغذية والكشف عليها.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية