"والناس فى حبه سكارى .. هاموا على شطه الرحيب .. آه على سرك الرهيب .. وموجك التائه الغريب .. يا نيل يا ساحر الغيوب" .. بتلك الكلمات وقف موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، يتغنى بعظمة نهر النيل، في قصيدة "النيل الخالد"، والتي وصف فيها الشاعر "محمود حسن إسماعيل" حالة العشق التي وصل إليها المصريون لذلك المجري النهري، حتى رفعوه لمصاف الآلهة والأرباب.
في بلدتة الصغيرة بمحافظة أسيوط، جلس الشاعر محمود إسماعيل علي شاطئ النيل بقريته، ليستمع إلي ذلك الحوار الذي دار بين النيل والنخيل والأشجار، ليدرك ذلك اللقاء الأذلي بين ذلك النهر وسعف النخيل، فراح يردد في عشق ابدي، سمعت في شطك الجميل، ما قالت الريح للنخيل، يسبح الطير أم يغني، ويسكب الحب للنخيل، وأغصن تلك أم صبايا، شربن من خمرة الأصيل، لم يكتفِ بذلك، ولكنه عاد وفصاغ في حبه قصيدة "شمس الاصيل"، فشدت أم كلثوم قائلة، شمس الأصيل دهبت خوص النخيل، يا نيل تحفة ومتصورة في صحبتك يا جميل.
قديمًا قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت قبل 24 قرن مضت مقولته الشهيرة، مصر هبة النيل، فالأرض المصرية القاحلة، والتي يغلب عليها الطابع الصحراوي، يخترقها نهر النيل من الجنوب إلي الشمال، ليحول الوادي والدلتا إلي أضخم واحة طبيعية علي سطح الكرة الأرضية، ما يؤكد أن مقولة هيرودوت بخصوص نهر النيل جانبها الكثير من الصواب، فلولا هذا النهر ما تحولت تلك الصحاري إلي حضارة زراعية عريقة.
أما عن كلمة "نيل" نفسها، فقد أجمع المؤرخين على أنها كلمة نوبية الأصل، وأنها تعود إلى كلمة "ني" التي مازال يستخدمها أهل النوبة في وصف النهر، والتي تعني "أشرب"، وعادة ما يقول النوبيون "نيلا تون نيلوس"، وهي عبارة تعني "شربت من مكان الشرب"، أهميته للحياة لكل من يعيش علي أرض مصر، جعل الفراعين الأولين لتقديسه، بل ورفعة إلي درجة ممكنه، فنصبوه إله للخير والسعادة، آسموه حابي.
رغم ما وصل إليه الشعب المصري من حضارة وتقدم وفتوحات هنا وهناك، إلا أنهم عجزوا عن تحديد منبع نهر النيل، فاعتقد البعض أنه ناتج ذوبان الثلوج فوق قمم الجبال، في حين رأي البعض الأخر أنه يأتي من باطن سلسلة جبال إفريقيا، إلي أن توصل المستكشف البريطاني "جون هاننج سبيك" إلي أن بحيرة فيكتوريا في المنبع الرئيسي لنهر النيل، وإن كان البعض يؤكد أن هذا الاكتشاف يعود للرحالة العربي "أبو عبد الله محمد أبن محمد الإدريسي"، وإنه أكتشف تلك البحيرة عام 1160، أي قبل ظهور "هاننج" بما يقرب من 700 عام، وإن كان أغلب المؤرخون يرون أن تقديس المصريون القدماء له، دلالة على أنهم أكتشفوا منابعه منذ العصور الفرعونية السحيقة.
"نهر النيل".. أطول أنهار العالم، يبلغ طوله 6671 كيلومتر، وتبلغ مساحته نحو 3.4 مليون كيلومتر مربع، رغم مروره ببعض الدول الجافة، إلا أن منابعه الغنية بالأمطار صيفا وشتاءا، حافظت على منسوبه من الإنخفاض، للنيل منبعين، الأول النيل الأبيض، ويعتبر المنبع الرئيسي له، حيث تمده بحيرة فيكتوريا بالمياه، وهي ثاني أكبر بحيرة عذبة في العالم، بعد بحيرة "بيقال" بالصحراء السيبيرية، فتصل مساحتها نحو 68 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عمقها نحو 40 متر، وتقع تلك البحيرة بين كينيا وتنزانيا وأوغندا.
تتدفق مياه نهر النهر من بحيرة فيكتوريا من دولة أوغندا، وتحديدا من مدينة "جينجا"، ويقطع مسافة نحو 70 كيلومتر ليصب في بحيرة "كيوجا" بأوغندا، وهي بحيرة ضحلة، تبلغ مساحتها نحو 1.62 كيلومتر مربع، كما يبلغ طولها نحو 200 كيلومتر، أما عرضها فضيق جدا، ولا يزيد عمقها عن 7 أمتار، ثم تخرج المياه من تلك البحيرة عند ميناء "ماسيندي، ويقطع ما يقرب من 500 كيلومتر، ليصل إلى شلالات "مورشيسون"، ومنها إلى بحيرة "ألبرت"، التي تقع في مركز القارة الإفريقية بين أوغندا والكونغو، من خلال نهر "سميليكي"، الذي يمر بدولة الكونغو عبر الحدود الأوغندية، والذي يتغذى بدوره من بحيرة "إدوارد"، التي توجد على نفس الحدود.
تخرج المياه من بحيرة ألبرت، لتستكمل مسيرتها في نيل ألبرت بأوغندا، حتى تصل إلى جنوب السودان، ثم تمر بشلالات "فولا"، ثم تلتقي بنهر "أسوا" على بُعد 20 كيلومتر من هذه الشلالات، لتنطلق بعدها إلى منطقة السدود، وهي منطقة المستنقعات الكثيفة، وهناك يتفرع منها بحر الزراف، وتستكمل مسيرتها لتتصل ببحر الغزال، ومنه تتجه إلى الشرق لتلتقي ببحر الزراف، ومن بعده نهر السوباط، الذي ينبع من الهضبة الحبشية، ثم تعود لمسارها الأول نحو الشمال، وبمجرد أن تصل المياه مدينة الخرطوم، يتحول إسم المجرى من النيل الأبيض إلى النيل الأزرق، وهو المنبع الثاني لنهر النيل، ومنه يدخل إلى دولة المصب في مصر.
رغم أن الأمطار لا تتساقط على النيل الأزرق سوى في فصل الصيف، إلا إنه يغذي نهر النيل في ذلك الموسم بنسبة تتخطي الـ80% من مياهه، وقد أطلق المصريون القدماء على ذلك موسم "فيضان النيل"، اعتقادا منهم بأن النهر يمتلأ بدموع إيزيس حزنا على وفاة زوجها أوزوريس، وينبع ذلك النيل الذي يصل طوله إلى 1400 كيلومتر، من بحيرة "تانا" بهضبة الحبشة في "إثيوبيا"، التي تتراوح مساحتها ما بين 3 آلاف إلى 3500 كيلومتر مربع، تبعا لكمية الأمطار المتساقطة، وفي السودان، وتحديدا في مدينة الخرطوم، يتصل النيل الأزرق بالنيل الأبيض، بعد أن يلتقي بنهري الرهد والدندر.
أما دولة إريتريا، فرغم وجود 4 أنهار بها، القاش، والبركة، وعنسبا، وستيتن، إلا أن الأخير هو الوحيد الذي يصب في نهر النيل، عند مدينة عطبرة، وإن كان لا يمده بالكمية الكافية لدعمه، وللنهر أهمية اقتصادية كبيرة، فبخلاف انه شريان حياة الإنسان، فهو أيضا مصدر لري الأراضي الزراعية، كما إنه غني بالأسماك، خاصة سمك البوري، الذي قدسه المصريون في العصور الفرعونية السحيقة، بالإضافة إلى السياحة النيلية، التي تقام على طول مساره بمصر والسودان، خاصة من هواة صيد التماسيح.
وعلى ضفاف النهر، يترسب الكنز الأسود، الذي يجدد خصوبة الأراضي الزراعية، طمي النيل، ففي كل عام يحمل نحو 110 مليون طن منه، إلا أن بناء السدود حجزته بالمناطق المخصصة لتخزين الماء الفائض، كبحيرة ناصر، التي لولا عمليات الحفر والتوسيع لرُدمت منذ فترة طويلة بسبب تلك الترسيبات، وإهمال ذلك في بعض البحيرات الإفريقية جعلها معرضة للردم التام.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية