بدأ اكتشفها منذ أكثر 400 سنة

"بورتريهات الفيوم".. 900 لوحة تُعيد الحياة لوجوه مصرية عاشت منذ 2000 سنه

وصفت بأنها أقدم لوحات تصوير الوجه البشري، فلأول مرة في التاريخ الإنساني تخرج عن إطار الرسم الجانبي، فقد اعتاد الفنان المصري القديم على رسم الوجوه من الجانب، حتى وإن كان الجسد من الأمام أو الخلف، ويمكن ملاحظة ذلك في رسوم المعابد الفرعونية، ما جعلها مدرسة خاصة امتازت بخروجها على الإطار المصري القديم المألوف، وبها انفتحت مصر على العالم الخارجي بعد أن كانت منغلقة على نفسها.

 

"بورتريهات الفيوم".. تلك اللوحات التي عُثر عليها ملتصقة بمومياوات تعود إلى العصر الروماني في منطقة الفيوم، ذات طبيعة فريدة، بها انفتحت مصر على العالم الخارجي، بعد أن كانت منغلقة على نفسها، فيها رُسم الوجه كاملاً من الأمام، وملتفتًا في بعضها قليلاً إلى اليسار، تصور بعض الأشخاص الذين عاشوا منذ أكثر من ألفي عام، ورغم اختلاف البعض حول طبيعة تلك الوجوه، ما بين مصرية، ويونانية رومانية، أو حتي بيزنطية، إلا أن الأسماء المكتوبة عليها يونانية، والملابس والتسريحات والحلي ذات طابع روماني.

منذ أكثر من أربعة قرون مضت، وتحديدًا عام 1615 ميلادية، بدأت أرض الفيوم في إخراج كنزها الثمين، حين عثر الرحالة الإيطالي "بيترو ديلا فاليه" علي أول تلك البورتريهات، لتتوالي الاكتشافات الأثرية، قام علي أثرها بنقل بعضها إلى أوروبا، لتستقر في قاعات "ألبرتينوم" بمتحف الفن الحديث في مدينة "دريسدين" الألمانية، وطيلة الرقون الأربعة عُثر في مقابر الفيوم على 900 لوحة، مازالت على حالتها الأولي، لما تتمتع به المنطقة من مناخ حار جاف.

لـ"وجوه الفيوم".. طابع فريد خاص بها، لم تكن مجرد رسوم جنائزية تقليدية، وإنما رسوم شخصية تُظهر ملامح الشخص المدفون داخل التابوت، تميل إلى الفن الإغريقي الروماني، كما تتميز بنظراتها الهادئة الخالدة، ما جعل الفيلسوف والروائي الفرنسي "أندرية مالرو" يصفها بإنها وجوه تتطلع إلى الحياة الأبدية، بل إنه يعتقد إنها وجوه حقيقية تطابق الواقع، أو كأنها تمثل منطقة وسط بين الحياة والموت، لذلك تُعد تلك اللوحات مزيجًا بين الحضارات الثلاث، الفرعونية، اليونانية، الرومانية.

أجمع المؤرخون علي أن التصوير على الخشب في مصر، بدأ مطلع القرن الأول قبل الميلاد، حيث كان المصري القديم يرسم صورًا لموتاه بالألوان على لوحات خشبية توضع على المومياوات، ومع اختفاء عادة التحنيط في القرن الثالث الميلادي، اختفى هذا الفن، خاصة مع ظهور الرموز القبطية، والتي تُعد امتدادًا طبيعًا للفن المصري في القرنين الثالث والرابع الميلادي، ما أدي إلي إدراج تلك الوجوه ضمن الفن القبطي.

 

رغم أن بعض تلك اللوحات عُثر عليها في مناطق بعيدة عن الفيوم، كسقارة والعلمين والشيخ عبادة، إلا إنها سُميت بذلك الإسم لأن أغلبها عُثر عليه في منطقة حوض الفيوم، وتحديدًا من منطقة هوارة وحتى أواسط مصر، وترجع قلة الكتابة عنها إلى عدد من الأسباب، أهمها أن الفنانين الذين رسموها مجهولون، وأنها لوحات مبعثرة في العالم، وأحيانا في عدة قاعات من المتحف نفسه، ما بين الأقسام المصرية، واليونانية، والقبطية.

ويعد عالم المصريات البريطاني "فلندرز بتري" أكثر من أهتم بالتنقيب في منطقة هوارة عام 1887، واستطاع أن يعثر على 81 بورتريه في أحد المقابر الرومانية، وقام بعرضها في أحد معارض لندن، وفي عام 1910 عثر على 70 بورترية، ليصل مجموع اكتشافاته 151 لوحة، توجد معظمها في متحفي القاهرة ولندن، ورغم أن دراساته حولها لا ترتقي إلى المعايير الحديثة، إلا أنها تظل أهم مصدر للعمليات التنقيب المنتظمة.

 

وعندما سمع الدكتور الفرنسي "دانيال ماري فوكية" عن اكتشاف تلك اللوحات عام 1887، أعاد تفتيش المقابر التي وجدت، ولكنه لم يجد سوى لوحتين، بينما استطاع تاجر الآثار النمساوي "تيودور جراف"، والذي ذهب إلى هذه المقابر بعد فترة وجيزة من زيارة دانيال، أن يعثر على 300 لوحة من منطقة الروبيات شمال شرق الفيوم، علمًا بأن أول بورتريه يصل الي أوروبا تم اكتشافه في هرم سقاره عام 1615 بواسطة "بيترو ديلا"، والذي كان من أوائل الرحالة الأوروبيين الي المنطقة، ونظرًا للمناخ الجاف والحارفي منطقة الفيوم تم حفظ اللوحات بشكل ممتاز، لدرجة أن ألوان الكثير منها تبدو كأنها لم تجف بعد.

يعتقد البعض أن لوحات الفيوم رُسمت في حياة أصحابها، وكان أصحابها يحتفظون بها معلقة على جدران منازلهم حتى الوفاة، ليتم وضعها فيما بعد علي وجه المومياء، وإن كان البعض يري أن بعضها رُسم بعد وفاة أصحابها، بل أنه في بعض الاحيان تم العثور علي لوحات بلا مومياوات، مثلما حدث مع عالم الاثار البريطاني "فلندرز بتري" في اكتشافاته بمدينة هوارة شمال هرم امنمحات الثالث الكبير وموقع قصر التيه "اللابيرنث" 1887، وقد كشفت التنقيبات عن 146 مومياء ذات بورتريهات، وكان من بينها رسوم أسلم ما تكون حالة، وأروع ما تكون فنًا.

 

استخدم رسامي لوحات الفيوم اخشاب من شجر السرو، أو الجميز، أو الليمون، وبسُمك لا يتجاوز سنتيمتر، ثم أصبحت في العصور اللاحقة بسُمك يتراوح ما بين نصف سنتيمتر و2.5 سنتيمتر، وبطول يصل إلي 42 سنتيمتر، وعرض حوالي 22 سنتيمتر، وكان الرسام يقوم بالرسم على الخشب مباشرة، وأحيانا بعد وضع طبقة من الجص، أو على القماش مباشرة، أو بعد تغطية القماش بطبقة من الجص، ثم الصقل جيدًا، ثم تخطط الصورة باللون الأسود ونادرًا باللون الأحمر، أما الخلفية فكانت تلون بفرشاة سميكة، وربما استخدم سكين لدهان اللون السميك بدلاً من الفرشاة، باستخدام أسلوب التصوير الشمعي في الرسم.

رُسمت لوحات الفيوم بأربعة ألوان أساسية، الأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود، وكانت تُستخدم في سرم الشعر والوجه، أما الألوان الإضافية، مثل الأزرق، والأخضر، والأرجواني فاستخدمت في تلوين الملابس والمجوهرات والتيجان، ما شكل تناغمًا رائعًا، وقد أُضيف اللون الذهبي إلى المجوهرات والتيجان وزخرفة الملابس، وكانت تستخدم لذلك، إما أوراق الذهب الأصلية، أو لون يحاكي الذهب، وكانوا يستخدمون بياض البيض للصق ورق التذهيب على اللوحة المرسومة بألوان الشمع، وهو ما ورثته الحضارة البيزنطية فيما بعد.

 

السؤال الأهم الأن، من هم أصحاب تلك الصور؟، هل هم مصريون؟، أم انهم ينتمون إلي جنسية اخري؟، الحقيقة التي لا جدال فيها أننا حتي اليوم لا نعرف سوي بعض من اصحاب تلك الوجوه، خاصة إذا كانت الصور لا تزال على المومياء، وكان الاسم يُكتب على صندوق المومياء، أو على اللفائف، وعلى الآثار المرفقة مع الميت باللغة اليونانية أو بالخط الديموطي، وفي أحيان أخرى كُتب الاسم باللون الأبيض باللغة اليونانية أو بالخط الديموطي على رقبة الشخص في الصورة، وأغلب تلك الاسماء يونانية الاصل، مثل أرتيمدوس، ديموس، هيرميونه.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية