"لم يعمر في الإسلام أكثر منه زخرفة، ولا أحسن منه ترخيمًا بعد الجامع الأموي".. بتلك الكلمات وصف المؤرخ المصري شمس الدين أبو الخير محمد السخاوي في القرن الـ15 ذلك الأثر الإسلامي العريق، والذي يقف شامخًا منذ أكثر من 600 عام مضت، ليكون شاهدًا على روعة العمارة في العصر المملوكي، بل وفي العصر الإسلامي كله.
يُعد جامع "المؤيد شيخ" مزيجًا رائعًا من حضارتي الدولة الفاطمية والعصر المملوكي، حيث تتمركز مئذنتيه على أبراج باب زويلة الذي شيدة جوهر الصقلي في أوائل عهد الدولة الفاطمية، وكان المهندس "محمد بن قزاز" صاحب فكرة استغلال هذين البرجين ليكونا قاعدتين للمئذنتين، وكان شيخ المؤرخين العرب "أحمد بن علي المقريزي" قد وصفه في القرن الـ15، بأنه "الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه، أن منشئه سيد ملوك الزمان، يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنوشروان، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان".
يقع جامع "المؤيد شيخ" في القاهرة القديمة، تحديدا بجوار باب زويلة في شارع المعز لدين الله الفاطمي بمنطقة الدرب الأحمر، وهو يعد من الآثار الإسلامية العريقة، التي تعود تاريخها لأكثر من 600 عام، أمر ببنائه السلطان المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ ابن عبد الله المحمودي الظاهري عام 1415، وفاءًا لندر أطلقه عندما كان مسجونًا في سجن "خزانة شمائل" الذي كان يحتل نفس الموقع، والذي وصفه "المقريزي"، بأنه أبشع السجون وأقبحها منظرًا يسجن فيه من وجب عليه القتل أو القطع أو يريد السلطان هلاكه".
اختلف المؤرخون حول أسباب سجن المؤيد، وإن كان البعض يرى أنه بعد وفاة السلطان "الظاهر برقوق"، والذي علمه فنون القتال وأنعم عليه بالإمارة، تولى الحكم أبنه "الناصر فرج بن برقوق"، في ذلك الوقت بدأت تظهر الفتن والمؤامرات بينه وبين الأمراء، حتى ظن أن المؤيد يريد الإنقلاب عليه، فأمر بسجنه في ذلك السجن البشع، إلا إنه استطاع أن يهرب من السجن ومن مصر كلها، ولم يعود إلا بعد وفاة الناصر، ليتولى حكم مصر عام 1412، ثم أشترى القيسارية التي يقع فيها السجن، وهدمه وشرع في بناء ذلك الجامع.
أستخدمت الأحجار الجيرية في بناء أساسات الجامع، والرخام الملون في الأرضيات، أما الباب الرئيسي فنُقل من جامع السلطان حسن الذي بني عام 1316، يتكون الجامع من صحن مستطيل مكشوف، وأربع إيوانات أو واجهات، الواجهة الجنوبية الشرقية تطل على شارع المعز لدين الله الفاطمي، والواجهة الشمالية الشرقية تطل على شارع الأشرفية، والواجهة الشمالية الغربية تطل على مساكن الطلاب، والواجهة الجنوبية الغربية تطل على شارع تحت الربع الذي يسمي حاليا بشارع "أحمد ماهر"، بالإضافة إلى منارتين وقبة واحدة.
بمجرد أن تعبر الباب الرئيسي الذي يطل على باب زويلة، يقابلك سلم مزدوج من الرخام الملون، له مسطبتان طويلتان من الرخام، يصل إلى جانبي المدخل الذي بني من الجرانيت الأحمر، يقف بينهما باب خشبي مغلف بالنحاس، ومطعم بالذهب والفضة، يبلغ ارتفاعه 6 أمتار، وعرضه 3.2 متر، وسمكه 12.5 سم، نُقل إليه من مسجد السلطان الناصر حسن بن قلاوون، يوجد على جانبي حائط المدخل الخارجي للباب إطار من الكتابات النسخية.
ذلك الباب يصل إلى دركاة كبيرة، وهي ساحة مربعة الشكل، سقفها شاهق الإرتفاع، على هيئة مصلبة حجرية تحتوي على تسع عقود من المقرنصات، يوجد على يمينها باب يصل إلى آخر الإيوان الشرقي، وعلى يسارها باب آخر يصل إلى قبة الجامع، التي يبلغ ارتفاعها حوالي 40 متر، أما صحن المسجد المكشوف فتتوسطه فسقية الوضوء، التي تأخذ الشكل المثمن، تعتلي 8 أعمدة رخامية، ومغطاة بقبة خشبية مذهبة، يحيط بالصحن أربع إيوانات أكبرها إيوان القبلة، والذي يتألف من 3 أروقة، في حين يتألف الثلاث إيوانات الأخرى من رواقين فقط، لكل إيوان صفين من الأعمدة.
يتوسط الجدار الشرقي محراب مجوف، يبلغ طوله 4 أمتار، ويصل قطره 1.5 متر، يزخر بمختلف الألوان الرخامية والزخارف الهندسية، وعلى جانبيه يوجد عمودان مطليان باللون الأحمر، لهما تيجان مذهبة، بجانبه المنبر الخشبي المزخرف بالأطباق النجمية، يعلوه قبة المنبر، أما دكة المبلغ فتوجد في نهاية الإيوان الشرقي، كان يعتليها المبلغ ليردد الآذان وراء الإمام، وهي دكة رخامية قائمة على 8 أعمدة، نقشت جوانبها بالذهب، وفي الجزء الجنوبي من رواق القبلة نقشت أسماء العشرة المبشرين بالجنة، كما يوجد باب سر يصل إلى المئذنتين.
يحيط بالمئذنتين ثلاث شرفات ثمانية الشكل، تقوم الأولى على قاعدة مربعة، زينت أضلاعها الثمانية بحليات مستطيلة، أما الثانية فتتخلل أضلاعها خطوط متعرجة، والثالثة بها الجوسق ذو الثماني أعمدة، يعلوها خوذة على شكل كمثرى، تنتهي بهلال نحاسي يأخذ اتجاه القبلة، كان للمسجد مئذنة ثالثة مختلفة الشكل قرب المدخل الغربي، لكنها إنهارت في القرن التاسع عشر.
داخل قبة المسجد يوجد قبرين، أحدهما للمؤيد، والآخر لأبنائه الثلاثة، الصارمي إبراهيم، والمظفر أحمد، وأبو الفتوح موسى، يحيط بهما مقصورة خشبية، كما يوجد بها بابان طعما بالسن والزرنشان، بينما تتزين أعلى القبة بخطوط محدبة، يحيط بها 6 شبابيك من الجص، كما ذكر المقريزي أن المؤيد زود الجامع بأكبر مكتبة في العالم، لأنه زودها بخزانة من الكتب للعلوم والفنون المختلفة كانت توجد بقلعة الجبل، بالإضافة إلى 500 مجلد أهداهم له القاضي ناصر الدين البارزي.
تعرض المسجد للتدمير عام 1665، عندما أمر "عمر باشا السلحدار" حاكم مصر بضرب المسجد بالمدافع ليخرج المتحصنين به من جماعات الزرب، وقام بترميمه والي مصر أحمد باشا الكتخدا عام 1690، ثم قام بتجديده السيد إبراهيم ابن السيد على خادم الفقراء الكلشني عام 1842، وفي عهد الخديوي إسماعيل تجددت إيواناته الثلاث للمرة الثالثة فيما بين عامي 1870 و1874، وفي عام 1881، عاينته لجنة حفظ الآثار العربية وأفادت بأنه متداعيا، وبالفعل فقد الكثير من اللمحة الأثرية، فحافظت على ما تبقى من الأثر، وفي عام 2000 بدأ المجلس الأعلى للآثار عملية ترميم شاملة للمسجد، كما قامت عمليات ترميم لمنبر المسجد وجدار القبة عام 2016، لذلك يعتبر الإيوان الشرقي بأروقته الثلاث المكان الوحيد الذي يحتفظ بطابعه القديم.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية