"بيض ملون.. وسمك مملح.. وبصل أخضر.. وخس".. تلك الوجبة البسيطة تعد طقوس شعبية إجبارية يقوم بها الشعب المصري منذ أكثر من 4700 سنة مضت، في احتفال شعبي بهيج، ففي نفس الموعد من كل عام، يبدأ المصريون بالاحتفال بذلك المهرجان المقدس الذي لم يتوقف منذ العصور الفرعونية السحيقة وحتى اليوم، حتى أضحى تراثا شعبيا لا يمكن الاستغناء عنه.
ورغم أن المصريون لا يعلمون أسباب الاحتفال بذلك العيد الوطني الذي يُعرف بـ"شم النسيم"، والذي وصفه المؤرخون بأقدم وأعظم الأعياد في العالم، إلا أنهم مازالوا يمارسونه بنفس تقاليده القديمة، ففي بداية الربيع وفي اليوم التالي لعيد القيامة المسيحي، يخرج كل أطياف الشعب المصري من منازلهم حاملين طعامهم هذا، ويذهبون إلى الحدائق المفتوحة، ليحتفلوا بعيدهم طوال اليوم، بين النباتات الخضراء والزهور والفسيخ.
يرجع المؤرخون ذلك الاحتفال الوطني إلى 2700 قبل الميلاد، وتحديدا في أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة، فكان المصري القديم يحتفل بذلك اليوم اعتقادا منه أن الحياة بُعثت في الأرض كلها، ولقد سجل المؤرخ اليوناني بلوتارخس في القرن الأول الميلادي، أن المصريون القدماء كانوا يقدمون البصل والخس والسمك المملح للآلهة، ويعود إسم "شم النسيم" إلى الكلمة الهيروغليفية "شمو"، وهي تعني شموس، تحرف ذلك الاسم مع بداية العصر القبطي ليتحول إلى "شم النسيم".
كان الإحتفال في العصور الفرعونية، يبدأ في الليلة الأولي التي تُسمى حاليا بليلة الرؤية، فيذهبون لأداء الصلاة في المعابد، وعند طلوع الشمس يبدأ العيد بمهرجان شعبي كبير، يشترك فيه كل طوائف الشعب، وقد أظهرت البرديات أهمية الأطعمة التي يتناولها المصريون في ذلك اليوم، ففي بردية الإله "بتاح"، كان البيض الملون يرمز إلى "خلق الحياة"، لذلك صورت الإله بتاح وهو يجلس على الأرض على هيئة بيضة، كما ورد في كتاب الموتى وأناشيد إخناتون، إنهم كانوا يكتبون علي البيض دعواتهم وأمانيهم في العام الجديد، ثم يضعونه في سلة مصنوعة من سعف النخيل، ويعلقونها بالشرفات وأغصان الشجر، لتتحقق أمانيهم.
أما الفسيخ، فكان له مكانة خاصة لدى المصري القديم، حتي أنه كان يصحبه في مقبرته لقدرته على تحمل رحلة الوصول إلى العالم الآخر، وكان السمك البوري والملوحة أفضل ما يصنعونه منه، ولقد وصف المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" أن المصريون كانوا يحتفلون بشمس النسيم بأكل الفسيخ على ضفاف النيل، اعتقادا منهم أن النيل "شريان الحياة"، والوحيد القادر على القضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض.
دخل البصل الأخضر ضمن مراسم الاحتفال بشم النسيم في عصر الأسرة السادسة، بعد أن أصيب أبن أحد الملوك بمدينة "منف" بغيبوبة مفاجأة، وداواه الكاهن الأكبر لمعبد آمون ببصلة، فاعتبره المصريون رمزا لصرف الشيطان، وجعلوه جزءا مهما من الاحتفال، كما أظهرت النقوش والرسوم على جدران المعابد، أن المصريون كانوا يقدمون "الخس" كقربان إلى الإله "مِن" إله التناسل، وأثبتت الدراسات الحديثة التي أجراها علماء التغذية في السويد أنه أفضل النباتات التي تمنح الخصوبة، لإحتوائه على فيتامين "هـ"، كما جاء في بردية "إبريس" أقدم البرديات الطبية في التاريخ، أن زيت الخس كان يستعمل في علاج القرحة.
وعادة ما كان المصريون يتجمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل غروب شمس ذلك اليوم، ليتمكنوا من مراقبة اللحظات الأخيرة للشمس وهي تقترب من قمة الهرم، فتبدو كأنها تجلس فوقه وأشعتها تشطره لقسمين، تلك الظاهرة مازالت تحدث في يوم 21 مارس من كل عام، في الدقائق الأخيرة من الغروب، ولقد تمكن عالم الفلك البريطاني "ريتشارد بروكتور" من تسجيل لحظة الإنشطار لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
يأتي شم النسيم متوافقا مع عيد الفصح، الذي يحتفل به اليهود بمناسبة خروجهم من مصر، وقد ذكر الكتاب المقدس بالعهد القديم، استغلال اليهود احتفالات المصريين بشم النسيم وهربوا حاملين ثرواتهم من الفضة والذهب التي سلبوها، كما أنه يلي عيد القيامة لدى العقيدة المسيحية بيوم، لذلك أصبح الاحتفال بذلك اليوم يجمع الشعب المصري بكل أديانه.
أما في الصين، فبدأ الاحتفال بأعياد الربيع منذ أربع آلاف سنة، وكان يسمى بعيد "نيان"، أي الحصاد الوافر، ومن مظاهر الاحتفال بذلك العيد إشعال الفوانيس المزخرفة، والذهاب للمعبد الذي يقام فيه مهرجان كبير، وكانت الوجبة المعتادة في ذلك اليوم تعتبر بركة وسعادة للشعب الصيني، وهي تتكون من دجاج وسمك وجبن الصويا، وكان سائر الشعب يخرج للتنزه في الحدائق والمتنزهات المفتوحة، ومنذ ما يقرب من 14 قرن مضى، اعتمدت الصين على تقويم خاص بها، واعتبرت ذلك اليوم عيدا رسميا يُعرف بعيد رأس السنة الصينية.
وفي بلاد فارس، يسمى ذلك الاحتفال بـ"نوروز"، أي اليوم الجديد، وترجع جذوره إلى التقاليد الدينية الماجوسية، إلا إنه استمر في بلاد فارس حتى بعد الفتح الإسلامي، وترتبط المأكلولات التي تعد في ذلك اليوم باعتقادهم بأن أرواح الأقارب المتوفيين تعود لتحتفل معهم بالعيد، وتعتبر مسدسات المياه من أهم مظاهر الإحتفال، لإعتقادهم إنها تطهر الجميع من الدنس، وإشعال النيران التي ترمز للانتصار والحرية، أما الهند فتحتفل به بمهرجان شعبي كبير للألوان، يُسمى عيد هولي.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية