"بنتي مهرها 3 قطع مصنوعة يدوياً وبختم صاحبها.. ومتنساش تكتب عليهم إسمها".. قديماً، وتحديدا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، لم يخلو زواجاً من تلك العبارة، خاصة بين الأسر التي وصفت بأنها ميسورة الحال، والتي تري عيباً في أن تدخل إبنتها منزلاً جديدا لا يوجد فيه تلك المصنوعات اليدوية الراقية.
طيلة قرون طويلة، مثل السجاد اليدوي مهراً للعروس، كان عادة أصيلة في بلاد الفرس، ثم إنتقل إلي مصر مطلع القرن الماضي، فأهل العروس عادة ما كانوا يشترطون على العريس أن يفرش منزل العروس بالسجاد اليدوي، فيما بعد تطور الإهتمام بالسجاد اليدوي ليصل إلي حد اقتنائه كقطعة نادرة أو هدية تحمل إسم أو توقيع صانعها.
"صوف، حرير، قطن، نول مصنوع من الخشب".. هذا كل ما يحتاج إليه العامل ليبدأ في إنتاج معجزة فنية بديعة من الجبلان، والكليم، والسجاد ذو العقد الذى يتميز بقيمته الفنية والمادية الثمينة.
يُعد السجاد اليدوي أحد أقدم الحرف التي عرفها الإنسان، بدأت مع العصر الفرعوني، ومنذ أكثر من 5 آلاف عام قبل الميلاد، وتحديدا في حضارة البداري، في في قرية الهمامية بمحافظة أسيوط في وسط الوادي، عُثر علي نقوش لصناعة السجاد اليدوي من الكتان والقطن، وهما المحصولان اللذان اشتهرت بهما مصر في العصور القديمة، كما تبين بعض مناظر السوق في مقابر الدولة القديمة، مشاهد بيع الكتان المغزول.
ولم يكن الكتان وحده هو الليف النسيجي المستخدم، فقد عثر أيضاً على منسوجات مصنوعة من صوف الأغنام وشعر الماعز وألياف النخيل والحشائش وغيرها، وقد أخرجت الحفائر منسوجات من شعر الماعز من موقع قرية العمال بتل العمارنة، والتي يرجه تاريخها إلى منتصف القرن الـ14 قبل الميلاد، وفي عهد الأسرة الثالثة ظهرت الصباغة، واستخدمت في السجاجيد بنفس درجة استخدامها في منسوجات الأقمشة المغزولة من الكتان.
ويتضح من النقوش القديمة أن النساء كن يشكلن الغالبة بين المشتغلين في إنتاج المنسوجات، وكن يستخدمن النول الأفقي، على عكس الرجال الذين أستخدموا النول الرأسي، كما توضح الصور والنقوش على جدران المعابد، وكان للنساجات والنساجون مكانة محترمة في المجتمع، حتى أن نصوص تحتمس الثالث نقلت لنا أن طبقة النساجين كانت من الطبقة المختارة للعمل بالمعابد الكبرى كالكرنك والأقصر.
ازدهرت صناعة السجاد في العصرين الأيوبي والمملوكي، وبعد سقوط دولة المماليك واحتلال العثمانيين بلاد الشام انتقلت معهم تلك الصناعة إلى أمصار الدولة العثمانية، ومنذ هذا التوقيت وصناعة السجاد اليدوي عادت لتنتشر من جديد في مصر، حتى أن قرى كثيرة بأكملها كانت تحترفها، لدرجة أن كل قرية كانت تعد قلعة من قلاع صناعة السجاد.
واليوم، أصبحت صناعة السجاد اليدوي من المهن المهددة بالإنقراض في مصر، فلا يوجد كتاب يهتم بتعليم صناعة السجاد اليدوي، أو مكان يهتم بنقل أصولها، فهي مهنة تورث ولا تدرس، بمعنى أن العامل بها لا بد أن يكتسبها في سن صغير، لأنها تحتاج إلى كثير من المهارة والتوافق العضلي والعصبي.
كان الملك فاروق أول من سلط الضوء على السجاد اليدوي في العصر الحديث، عندما أراد أن يصنع سجادة يدوية على شكل عملة ورقية فئة الخمس جنيهات، فطلب من مصنع القطان لصناعة السجاد اليدوي أن يبدأ عمله في نسج هذه السجادة، فبدأ المصنع فورا في العمل، لكنه فشل في إنتاجها من المرة الأولي، واحتاج إلى ثلاث محاولات لكي يمكنه إنتاجها.
المحاولة الأولي فشل المصنع في إنتاجها بالتدرج الصحيح لألوان العملة النقدية، أما المحاولة الثانية ففشلت نتيجة لتغيير محافظ البنك المركزي، وفي المحاولة الأخيرة كاد المصنع أن يبلغ النجاح، لكن ثورة 23 يوليو 1952 أطاحت بالملكية، وبالتالي لم يعد أحد بحاجة إلى سجادة العملة النقدية، خاصة بعد تغييرها تماما.
ولكن صاحب المصنع قرر أن يستمر في الصناعة، فاشترى قصرا قديما وقام بترميمه وافتتحه مصنعا للسجاد اليدوي، وجعله مكان لتدريب الشباب على هذه الحرفة الفنية الثمينة.
أنواع السجاد
للسجاد اليدوي أنواع عديدة منها السجاد اليدوي المصنوع من الحرير، ويتميز هذا النوع بالألوان الأنيقة وتنوع عقدة الحرير، فهناك سجاد ذو 64 أو 81 أو 100 أو 144 عقدة في السنتيمتر، وهذا يصنع على نول عادي، ومن أدوات صناعته الدفن والمقص، وهناك سجاد مصنوع من الصوف المصري وآخر من النيوزيلندي، وبالرغم من أن النيوزيلندي طويل التيلة لكن الصوف المصري يتميز بالجودة العالية ويتمتع بسمعة عالمية، ويعتبر سجاد "القشقاي" و "الشيرازي" من أبرز السجاد اليدوي المصنوع من الصوف، وقد يدخل الحرير مع الصوف لعقد "النيين" وهي عقد الصوف المطعمة بالحرير، كما يتداخل الصوف مع القطن لإنتاج السجاد العادي.
أما الأوبيسون فهو نوع آخر من المواد المستخدمة في صناعة السجاد اليدوي، وهو يستخدم في صناعة سجاد الأرضيات والبورتريهات التي تزين الجدران، ويتميز الأوبيسون بلمسته الناعمة فلا يوجد به وبرة، ويوجد ثلاث أنواع منه، الأوبيسون المصري والفرنسي والصيني، وعادة ما يكون الأوبيسون متعددة الألوان.
أما الجبلان المصري الذي يعرف بالكليم، فهو يختلف في صناعته عن النول العادي، فنوله يشبه نول النسيج، الذي يتكون من "سدا"، وهي الخطوط الطولية، و"لجمة" وهي الخيط الموجود داخل المكوك، الذي يرسم بها الصانع تصميم السجاد، ومن أهم أدوات صناعة الكيم "المشط" الذي يستخدم للضم عملية "اللجمة"، و"الكف" الذي يستخدم للضم النسيج، و"الدرق" الذي يستخدم في عملية فتح النفس، وهو الذي يفصل الخيوط الفردية عن الزوجية.
قلاع السجاد
رغم أن صناعة السجاد اليدوي على شفا الإنقراض، مازالت توجد بعض القلاع التي تحافظ على الحرفة من الإندثار، وتعتبر قرية "أبو شعرة" في محافظة المنوفية، الملكة التي تتربع على عرش تلك الصناعة في مصر، حتى أن الرئيس الأسبق "حسني مبارك" تفاجأ عندما زار قصر الإليزية في باريس، ووجد زوار القصر يتجمهرون حول أحد الجدران تزينه قطعة رائعة من السجاد اليدوي، أنتجتها قرية أبو شعرة.
ولدت صناعة السجاد في قرية أبو شعرة سنة 1952، عن طريق أحد أبنائها الذي عاد بخبرة طويلة أكتسبها من العمل في الصناعة في محافظة القاهرة، وقام بنقلها بين أبناء القرية، بعد أن أدرك القيمة الفنية والتراثية التي تكمن في تلك الحرفة، منذ ذلك الوقت أصبح النول جزء لا يتجزأ من أثاث كل منزل في القرية.
لم تتوقف الصناعة عند هذا الحد، إنما انتشرت وتغلغلت في القرى المجاورة أيضا، وتطورت كثيرا، حتى أن صانعوها احترفوا في كل أنواع العقد وأصناف السجاد، ومن أهم أنواع السجاد، الصوف الممزوج بالقطن، مثل سجاد "شروان" و"هاريز" و"التوبس"، والسجاد الحرير، وهو يتكون من حرير طبيعي 100%، أما سجاد "نايين" فهو يتكون من الحرير الطبيعي الممزوج بالصوف النيوزلندي الفاخر، وبذلك استطاع حرفيين هذه القرية أن يغزو الأسواق الداخلية والعالمية في ظل المنافسة الشرسة مع الدول الأخرى.
تتطلب صناعة السجاد الدقة، والصبر، والبراعة، والتركيز الدائم، فأي خطأ يؤدي إلى إهدار الكثير من الوقت، فقد يتسبب الخطأ الواحد إلى فك العقد، فإذا كان عمل العقدة الواحدة التي تبلغ مساحتها سنتيمتر، يستغرق يوما كاملا، فلا يجوز أن يوجد أي احتمال للخطأ، وعادة ما تكون قيمة السجادة في تصميمها وعدد عقدها، فكلما كثرت عدد عقدها كلما ارتفع سعرها.
والسجادة الواحدة قد تستغرق شهور طويلة أو عدة سنوات من العمل المتواصل لإنتاجها، حتى إنها قد تستهلك حياة أربع أو خمس أفراد يتبادلون في العمل عليها، فقد استغرق "بيت عيسى" حوالي 7 سنوات، لإنتاج سجادة واحدة، يبلغ حجمها 60 متر، كان قد طلبها أحد أمراء الخليج.
"الخيال الفني.. والمقدرة على تذوق جمال الألوان وتناسقها".. من أهم مقومات العمل في صناعة النسيج اليدوي، لأنها تعتمد كل الاعتماد على خيال العامل في إنتاج أشكال فنية متكاملة ومتناسقة، أيضا إذا كانت الألوان الممزوجة خرجت بشكل شاذ يكون الناتج منفر، وهي صفات تكتسب منذ الصغر وبالتدريب المستمر، ولذلك تجد في كل الورش أطفال تتعلم الحرفية.
كما تعتبر قرية الشناوية في بني سويف، من القلاع المصرية التي استطاعت أن تحفر لها مكانا متميزا في هذه الصناعة، سواء في السوق المحلي أو السوق العالمي، ففي عام 1961 وأثناء زيارة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر معرض بيجوسلافيا السابقة، لفت نظره سجادة معلقة بالمعرض، علم إنها إنتاج قرية الشناوية، فقرر إقامة مصنعا للسجاد بهذه القرية، لتوفير عمل للأميين والمتسربين من التعليم من الجنسين، فأصبحت هذه المهنة جزءا لا يتجزأ من أهالي القرية، فاحترفوها وبرعوا فيها.
طيلة 56 سنة، شهدت قرية الشناوية ازدهار وإنهيار هذه الصناعة، ولكنها في النهاية استطاعت أن تصمد في وجه الصعوبات الشديدة التي واجهتها، فالقرية التي كانت تمتلأ بورش وأناويل صناعة السجاد، لم يبق منها سوي القليل لقلة العمالة، فقد هجر الشباب تلك الصنعة، ما أجبر أصحاب الورش والأناويل للاستعانة بالأطفال التي لم تتعد أعمارهم الرابعة عشر، والذين أقبلوا على تعلم الحرفة، وبدأ البعض منهم يبدع في الصناعة التي تحولت إلى فن وإبتكار.
أما قرية فوة بمحافظة كفر الشيخ، فتعتبر أكبر مصنع للسجاد اليدوي، فلا يوجد فرد من أهلها يجهل هذا الفن، الذي يتوارثوه جيلا بعد جيل منذ العصور الفرعونية الأولي، حتى أن أهلها يفخرون بأنهم أصل صناعة السجاد اليدوي في العالم، وتضم القرية نحو 70% من ورش النول في مصر، وهي تنتج 11 نوعا من الكليم الفاخر المعد للتصدير، والجوبلان السياحي، بالإضافة إلى آلاف القطع من سجاد الحرير الطبيعي.
كما تعتبر قرية الحرانية بجنوب الجيزة أحد أهم معاقل هذه الصناعة في مصر، خاصة وأن مؤسس هذه الصناعة في القرية أستاذا في تاريخ العمارة والفن، وهو المهندس رمسيس موسى واصف، الذي حاول أن يوجد ابتكارا وإبداعا للعمارة البيئية، فأسس مصنعا للسجاد اليدوي في القرية، وضم الكثير من الحرفيين الذين يمتلكون القدرة الفنية العظيمة والحرفية البالغة، ويرجع له الفضل في إدخال فكر جديد في هذا الفن، وهو غزل أشكالا من واقع البيئة، فنرى السجاد والكليم اليدوي هناك يضم رسومات فرعونية وإسلامية وآيات قرآنية وطيور وعصافير وحقولا مزدانة في صورة سجاد يفترش الأرضيات، وكليم يزين الجدران.
وفي كرداسة بدأت صناعة النول والسجاد اليدوي على يد 10 رجال، وهم يمثلون عائلات معروفة بالإسم في المنطقة، ومن أبرزهم بيت عيسى، ومكاوي، والشيخ، والسيد، ومحمود، والطيار، وكلهم توارثوا العمل اليدوي في صناعة السجاد اليدوي والجلباب.
هذا الفن، أصبح له طابعه الخاص الذي يتبع طابع كل قلعة، حتى أن الناظر يمكنه بسهوله أن يميز كل قطعة وينسبها إلى مكانها الذي أنتجت فيه، فكل قلعة من قلاع السجاد اليدوي في مصر تمسكت بتراث البيئة المحيطة بها، كما اهتم البعض بإثراء السجاد بالتراث الفرعوني، ليزين قصور الأثرياء والقرى السياحية في مصر، كما غزل البعض من التراث الإسلامي القباب والمآذن، لتنطق الخيوط بالتراث المصري الذاخر بالكثير من الحكايات، وتنقلها عبر الأجيال.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية