كائن شرس، مُثير للإشمئزاز رغم نعومته، عدواني رغم رقته، يهاجم لمجرد الشعور بالخطر، رغم ما يتركه مظهرها من قشعريرة وإنطباع سيء في النفوس، إلا أن المصريون القدماء قدسوه، وجعلوه رمزا للسيادة، ورفعوه إلى مصاف الآلهة.
"الكوبرا المصرية".. أحد الأفاعي التي وصفت بأنها أكبر أنواع الكوبرا في القارة الإفريقية، قديما احتلت مكانة خاصة عند المصريون القدماء، وجاءت النقوش والصور في معبد حاتشبسوت بمدينة الأقصر، والذي يرجع إلى عصر الأسرة الـ18، لتظهر لنا مدى تقديس المصري القديم لهذه الزواحف، تلك النقوش تظهر نوعان من الصور لهذه الأفعى، أحدها تظهر قرص الشمس مع الكوبرا ورأسها يعبر من خلال علامة "عنخ"، وهو مفتاح الحياة، وأخرى تتقدم فيها على صقر حورس يرتدي التاج المزدوج لمصر الموحدة.
والحقيقة أن "التاج المزدوج" أكبر دليل على أن الكوبرا المصرية كانت ترمز إلى النفوذ والسيادة في العصور الفرعونية السحيقة، حتى أنهم أضافوها إلى التاج الموحد، بجانب طائر الرخمة المصرية، الذي كان يمثل الآلهة "نخبت" حامية وراعية مصر العليا.
وفي عصر الدولة القديمة كان المصريون يقدسون الكوبرا ويضعوها في مصاف الآلهة، فكانت ترمز إلى الآلهة "واجيت"، التي أطلق عليها الإغريق إسم بوتو، وهي راعية وحامية مصر السفلي، وكانت شعارا على تاج حكامها، وبعد الوحدة مع مصر العليا أصبحت حامية مشتركة للوجهين القبلي والبحري، وهذا ما ظهر جليا في التاج المزدوج، وكانت الآلهة "واجيت" تصور على هيئة امرأة برأس ثعبان، أو على شكل ثعبان برأس امرأة، أو كثعبان كامل، أو كامرأة برأس مزدوج على هيئة ثعبانين.
وكراعية وحامية، إتخذت واجيت دور حامية "رع"، فظهرت ملفوفة على رأسه، وبهذه الصورة أصبحت رمزا لها في التيجان الملكية أيضا حيث تظهر على جبين الفرعون، أما أول تصور لها فكان ذلك في عصر ما قبل الأسرات تظهر فيه على هيئة كوبرا تلتف حول ساق البردي، وهو الشكل الذي ظهرت به في اساطير كثيرة من الحضارات المحيطة بالبحر المتوسط، حتى إنها سُميت بـ"صولجان هرمس".
كما ارتبطت قديما بالإله "حتحور" إله الشمس عند القدماء المصريون، حيث أعتقد المصري القديم أن مجرة درب التبانة ما هي إلا ثعبان يسعى في السماء، ولأنها كانت تبصق السم في عيون أعدائها سُميت بـ"سيدة اللهب"، كما ارتبطت بآلهة الحرب في مصر السفلي المعروفة باسم "باستت"، التي كان يرمز لها بـ"اللبؤة"، ورغم أن سخمت آلهة الانتقام وصفت بأنها واحدة من السفاحات سافكي الدماء، إلا أنها صورت وقرص الشمس على رأسها، والأفعي الملكة "واجيت" تزين جبينها، وعندما بدأ عصر تزاوج الآلهة بعد توحيد مصر العليا والسفلي، أصبحت زوجة "حابي" إله النيل.
حتى أن الأساطير الفرعونية القديمة ظهرت الآلهة واجيت ربة "بوتو" في صورة الآلهة الحامية، عندما استعانت بها "إيزيس"، وتركت إبنها "حوريس"، ليكون في رعايتها، حتى تتمكن "إيزيس" من البحث عن الصندوق الذي حبس فيه "ست" إله الشر، إخيه أوزوريس، وألقاه في النيل، وعندما اشتد عود "حورس" وحارب عمه "ست"، كان سكان بوتو أول من اعترفوا بحورس ملكا متوجا عليهم، إلى أن حكمت له الأرباب بأحقيته في إرث أبيه، وأعلنته إلها للملكية في عالم الأحياء.
منذ ذلك الوقت، ونتيجة للدور العظيم الذي قامت به مدينة بوتو قبل توحيد مصر، أصبح ملوك مصر القديمة مرتبطين بتاج الآلهة "واجيت" الأحمر كرمز للحرب والقتال، فكان الملوك يتوجون به كل عام في عيد التتويج كملوك على الدلتا وورثة لحورس هناك، ومازالت بقايا أطلال معبد واجيت وأحجاره المتناثرة وسط تل الفراعين، تقف كشاهد على ما كان عليه من ضخامة وفن معماري.
كما يقول بعض المؤرخون أن كليوباتر السابعة ملكة مصر، عندما سمعت خبر موت حبيبها "ماركوس أنطونيوس" في معركة أكتيوم البحرية، عام 30 قبل الميلاد، انتابها حالة من اليأس والضياع دفعتها إلى الانتحار، وإنها استعانت في ذلك بالكوبرا المصرية، التي لدغتها لدغة قضت عليها، وانهت أحلام أوكتافيوس قيصر الذي كان يأمل أن تسير ملكة مصر في موكب نصرته في روما، لكنه لم يجد سوى جثتها.
وتعد "الكوبرا المصرية" أخطر أنواع الأفاعي السامة في العالم، فلدغة واحدة منها يمكن أن تقتل فيل أو 20 شخص في غضون 3 ساعات، يصل طولها ما بين 1.6 و 2.3 متر، وتتميز برأس كبير مضغوط، وعينان واسعتان مستديرتان، وجسم أسطواني الشكل، رغم أن البعض يطلق عليها "الكوبرا السوداء"، إلا إنها متغيرة اللون، فقد تكون بنية ذات بقع داكنة أو فاتحة، وغالبا ما توجد علامة تحت عين تلك الأفعي تسمى بـ"مسيل الدموع"، وإن كان يوجد منها في شمال غرب أفريقيا نوعا لونه إسود تماما، وغالبا ما يكون لون البطن أبيض أو أصفر أو رمادي مزرق، أو بني داكن، أو اسود.
أما عن موطنه، فأكدت الدراسات أن "الكوبرا المصرية" تنتشر في نطاق واسع، فهي تعيش في دول شمال أفريقيا شمال الصحراء، من السافانا في الغرب إلى كينيا وتنزانيا في الشرق، ومن شمال أفريقيا حتى حوض الكونغو جنوبا، أي إنها تفضل المناطق الجافة والرطبة، كما تعيش في حشائش السافانا والمناطق شبه الصحراوية، ويمكن العثور عليها في حديقة حيوان الجيزة، وحديقة سان ديجو، وفي حوض السمك فرجينيا.
وباعتبارها كائن زاحف، لذلك ترتبط بالأرض بصفة دائمة، ورغم إنها تميل إلى النشاط نهارا إذا تم أسرها، إلا إنها في البرية تميل إلى النشاط الليلي، وهي تعيش في جحور الحيوانات المهجورة، وفي تلال النمل الأبيض، وفي الشقوق وبين الصخور، وأحيانا تهاجم مساكن البشر أو المزارع لتصطاد الدواجن، وعندما تشعر بإقتراب البشر منها تلوذ بالفرار، لكن إذا كان قربهم يشعرها بالخطر تقف لتواجه ذلك الخطر القادم بوقفة متحفزة في مشهد يثير الرعب في النفوس.
تتغذى الكوبرا المصرية على أنواع مختلفة من الفرائس، منها الطيور والضفادع والثدييات الصغيرة والزواحف الصغيرة، ومن العجيب إنها تأكل الثعابين الأخرى الأصغر والأضعف منها، وترجع خطورتها في أن السم الذي تبثه في ضحاياها يدمر الجهاز العصبي لأي كائن حي، ومتوسط كمية السم في اللدغة الواحدة يتراوح من 175 إلى 300 ميلي جرام، هذا السم يشل أعصاب المصاب ويوقف الإشارات العصبية التي تنتقل إلى العضلات، وإذا لم يتم إسعاف ذلك المصاب في وقت سريع، ففي أقل من ثلاث ساعات تتوقف الإشارات التي تنتقل إلى القلب والرئتين ويشل الجهاز التنفسي بالكامل مما يؤدي إلى الموت.
ولدغة الكوبرا المصرية تسبب ألم شديد في مكان اللدغة، يصاحبها ورم وصداع وغثيان وتقيؤ وآلام بالبطن وإسهال شديد مع دوار وتشنجات.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية