يُصيب الأرض 3.1 مليار مرة سنوياً

"خيوط البرق".. أشجار السماء المُضيئة التي قدسها الإغريق والرومان

"كم يبلغ ثمن البرق".. سؤال يبدو في واقعه شيء من الخيال، ولكنه في واقع الأمر نتاج آلاف السنين من علوم كافة الحضارات الإنسانية، فقديما كان الإنسان يعتبر البرق حدثا مقدسا مرتبطا بالآلهة، فقد رأها شجرة السماء المُضيئة التي يجب أن يقدسها.

 

ففي القرن السابع كان الإغريق يعتبرون الإله زيوس هو إله البرق، أو صانع البرق، وصوروه على إنه رجل ضخم يمسك بيده عصا تنطلق منها صواعق البرق، يصعق بها كل من يعصى أوامره، وحتى عهد قريب كان الناس في أوروبا يعتقدون بوجود هذا الإله بالفعل، وكانوا يطلقون علية إسم صانع البرق.

 

وفي الحضارة الرومانية أطلق عليه الإله "جوبيتر"، واعتبروه أفضل وأعظم الآلهة، ولذا توجوه عليها جميعا، وجعلوه يسيطر على مجمع آلهة الكابتول، كما أطلقوا عليه ألقاب كثيرة مثل إله الشمس والقمر وإله الرياح والمطر والعواصف والرعد والبرق، وقد صوره الرومان كرجل عجوز ملتح، تنم ملامحه على الحكمة، يمسك بيده اليسرى عصا "البرق" ويرافقه نسره المفضل.

"الإله الثور".. أقوى الآلهة والمدافع عنهم، هكذا ذكر البرق في الأساطير الإسكندنافية، وصور على أنه رجل عملاق يتسلح بمطرقة عملاقة تنطلق منها صواعق البرق، يبيد بها أعداءه وهو يتجول بعربة يجرها جديان بين المجرات، أطلق على هذه المطرقة اسم "ميولنير"، والحقيقة أن الإسكندنافيين أعتبروها رمزا لقوة الإله ثور، مدعين أن قدرتها جاءت نتاج تعويذة سحرية أطلقها الأقزام وهم يصنعون تلك المطرقة.

 

وفي شرق آسيا عُرف باسم "لي غونغ" عند الصينيين، وباسم "كامي" و "سوسانو" عند اليابانيون، وفي أمريكا كان يطلق عليه السكان الأصليين اسم "عصفور الرعد"، وأطلق عليه الجرمانيون القدماء أسم الإله "دونار"، وسمي بـ"تشاك" عند شعب المايا في أمريكا اللاتينية، و"كوسيجو" في الأسطورة المكسيكية، أما في أفريقيا، كانت قبائل يوروبا تعتقد إنه الإله المسئول عن البرق والرعد هو "شانغو"، وفي المحيط الجنوبي سمي "هايكيلي"، و"ناماركون" عند الشعوب الأصلية في استراليا.

كانت بعض الشعوب تعتقد بوجود ثور يركب عربة ويخترق السحب وفي يده مطرقة كلما طرق بها تولد البرق، أو أن هنالك طائر كلما رفرف بجناحيه تولد صوت الرعد، أما البرق فهو عبارة عن الريش اللامع لهذا الطائر، هكذا بقيت الخرافات مسيطرة على عقول البشر آلاف السنين، حتى بدأ العالم بنيامين فرانكلين تجاربه حول الكهرباء سنة 1746، أي منذ 270 عام، ثم اقترح أول تجاربه العلمية، التي أثبت من خلالها أن البرق ما هو إلا شرارة كهربائية ناتجة عن التقاء شحنتين كهربائيتين متعاكستين.

 

وفي عام 1750 كتب هذا العالم ما معناه: "لكي نحدد ما إذا كان البرق عبارة عن كهرباء أم لا، نقوم بالوقوف في غرفة صغيرة على برج عالٍ، ثم نرسل سلكاً من الحديد عالياً في الجو أثناء وجود غيوم كثيفة وممطرة، أي أثناء وجود عاصفة رعدية، إن الكهرباء الموجودة في الغيوم سوف تنتقل عبر القضيب المعدني من نهايته العليا إلى نهايته السفلى، وسوف تنطلق شرارة كهربائية، وينبغي عزل هذا القضيب بالشمع لكي لا تنتقل الكهرباء عبر الجسم وتسبب الأذى".

وقام هذا العالم بتنفيذ تجربته عام 1752، بإستخدام طائرة ورقية هي الأشهر في التاريخ، وفي نفس العام، قام العالم الفرنسي "توماس فرانسوا" بتطبيق هذه التجربة، فصنع طائرة ورقية وربطها بسلك معدني ثم أرسلها عاليا في يوم مطير، وعندما اقترب نهاية القضيب من الأرض انطلقت شرارة قوية تشبه شرارة البرق، فأثبت بذلك أن الغيوم تحتوي على شحنات كهربائية.

 

كما قام الفيزيائي الروسي جورج ريتشمان بتجربة حول البرق عام 1753، أثبت فيها أن الغيوم الرعدية تحوي شحنات كهربائية، إلا إنه قُتل بسبب صدمة البرق التي تعرض لها، لأنه نسى عندما قام بتطبيق التجربة أن يعزل السلك المعدني، فتسببت الشرارة الكهربائية القوية بقتله على الفور.

رغم استمرار التجارب، إلا أن المعرفة بالبرق ظلت متواضعة حتى نهاية القرن التاسع عشر، ومع بداية القرن العشرين ظهر التصوير الفوتوغرافي، وأصبح بإمكان العلماء التقاط صور لومضات البرق وتحليلها، ورغم أن التصوير بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1935، إلا أن العمليات الدقيقة التي ترافق البرق ظلت مجهولة حتى الستينيات من القرن العشرين، بسبب بطء أجهزة التصوير.

 

ومع تطور التصوير، واستخدام الحاسب الآلي لمعالجة ودراسة البيانات التي قدمتها مختبرات مراقبة البرق في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، استطاع العلماء إثبات أن ومضة البرق الواحدة تتألف من عدة ضربات، وكل ضربة تتألف من عدة مراحل.

وقد ثبت علميا حدوث 100 ومضة برق في كل ثانية في العالم، أي حوالي 8.6 مليون ومضة برق يوميا، وأكثر من 3.153 مليار ومضة برق سنويا، وكل ومضة برق تولد توترا كهربائيا يتراوح من 100 مليون وحتى 1000 مليون فولت، أي تنتج تيارا كهربائيا يتراوح بين 10 آلاف أمبير وحتى 200 ألف أمبير.

 

في النهاية علينا أن نعلم أن البرق لا ينحصر في العواصف الرعدية فقط، فقد شوهد بعض أنواع البرق في الأعاصير الكبيرة، وفي البراكين، وفي العواصف الثلجية الضخمة، ويمكن أن تمتد شرارة البرق إلى أكثر من عشرة كيلومترات أفقيا، ويرتد في جزء من الثانية، ولعل هذا يجعلنا نتذكر قول رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما وصف البرق منذ 1400 سنة قائلا: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟"...!!

 

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية