موطن الطيور المهاجرة

"بحيرة قارون".. أقدم وأكبر البحيرات الطبيعية في العالم

وصفت بأنها أكبر وأقدم البحيرات الطبيعية العذبة في العالم، قديما كانت أكثر ضخامة مما تبدوا علية اليوم بأكثر من عشرة أضعاف حجمة اليوم، تبلغ مساحتها 230 كيلو مترا مربعة، في حين كانت تتخطي حاجز الـ2500 كيلو متر مربع، يوم ما كانت جزء من من بحيرة موريس القديمة، وهو إسم فرعوني يعني "البحيرة الكبيرة".

 

"بحيرة قارون".. تلك البحيرة العذبة المغلقة في قلب الصحراء الغربية، ترتبط بنهر النيل بشريان حياة إسمة "بحر يوسف"، وهو إحدى القنوات المائية القديمة التي أنشأها الملك أمنمحات الثاني في القرن الـ19 قبل الميلاد، لتمد بحيرة قارون بمياه الفيضان، ينبع من مدينة ديروط بمحافظة أسيوط، ثم يمر بمحافظتي المنيا وبني سويف، حتى يصل إلى البحيرة، كما يوجد مصرفين بالغي الأهمية يقومان بتغذيتها، وهما مصرفي "الوادي" و"البطس"، بالإضافة إلى 12 مصرف يمدوها بحوالي 69% من مياه الصرف في الفيوم.

 

وقد ورد في مخطوطات المؤرخ اليوناني هيرودوت، وتحديدا في القرن الخامس قبل الميلاد، أن بحيرة قارون كانت تخزن المياة ستة أشهر، وتمد الأراضي بالمياه ستة أشهر آخرين، وتقع شمال غرب منخفض وادي الريان، على بُعد 50 كيلومتر غرب نهر النيل، تمتد لمسافة 1385 كيلومتر مربع، تبلغ المنطقة البرية 1155 كيلومتر مربع، بطول 50 كيلومتر، وعرض 12 كيلومتر، أما عمقها فيتراوح من 7.5 متر، إلي 14 متر في مناطق أخرى.

قد يعتقد البعض أن البحيرة استمدت أسمها من أحد أغنياء قوم سيدنا موسي علية السلام، قارون، وإن أرض البحيرة هي نفس الأرض التي خسف الله فيها قارون بكل كنوزه، ولكنه للحقيقة جائت التسمية نتيجة لكثرة القرون والخلجان، فأطلق عليها المصريون بحيرة "القرون" ثم حُرفت إلى بحيرة قارون، ورغم ذلك مازالت البحيرة مطمع للكثيرين ممن يبحثون عن ثروة قارون، وإن كان البعض يؤكد علي أن إسم البحيرة في العصور الفرعونية كان "بارون"، ووحُرف إسمها مع الزمن ليصل إلى "قارون".

 

رغم الاصل النهري للبحيرة، إلا أن بها مياة مالحة، ما جعلها موطن لبعض الاسماك البحرية، في معجزة حار العلماء في تفسيرها، ففي قاع البحيرة ستجد أسماك نيلية وبحرية، ولا فقاريات وطحالب حمراء من نوع "بوليسفونيا"، ورغم إنها نُقلت من البحر المتوسط، إلا إنها استطاعت أن تتأقلم في البحيرة، التي أصبحت تمثل مصدر هام للثروة السمكية، فيعيش فيها عشرات الأنواع  من الأسماك مثل البلطي، سمك موسي، البوري، الدنيس، القارومي، ثعبان البحر، القرموط، والجمبري.

وتعد محمية قارون الملاذ الدافئ لعشرات الآلاف من الطيور الهاربة من شتاء أوروبا القارص، وعادة ما تتكاثر هذه الطيور على جزر المحمية، خاصة جزيرتي حمود والقرن الذهبي، ورغم أن جزيرة حمود لا تتعد الكيلومتر مربع، إلا إنها أهم مكان لتكاثر الطيور، لأن أرضها مرتفعة عن سطح الماء والأرض المحيطة بالبحيرة، مما يحافظ على الطيور المهاجرة والمقيمة فيها، وقد تسبب ارتفاع منسوب المياه في البحيرة عام 1989، إلى غرق 4 آلاف طائر من طيور النورس.

 

وقد رصد العلماء 88 نوعاً من الطيور داخل المحمية أهمها النورس القزرقطي، والخطاف، وأبو معلقة، والبط، والصقور، وطائر الغر، والفلامنجو، بالإضافة إلى 17 نوعا من النباتات البرية منها نبات الرطريط، والعاقول الحميض، والزربيج، والغبير، والعرافة، ومسمار الغاب، كما رصد 10 أنواع من الأسماك منها البلطي، وسمك موسى، والبوري، والطوبار، والدنيس، والقارومي، الجمبري، وثعبان الماء، والقرموط.

 

كما رصد العلماء أيضا 30 نوعاً من الزواحف أهمها الكوبرا المصرية وثعبان الأرقم الأحمر، والأرقم البيبثي، وأكلة البيض، وأنواع عديدة من الحيات مثل الحية المقرنة، والحية القرعة، والورك الصحراوي والابراص والسحالي، كما يوجد أيضا عدد من الحيوانات الثديية أشهرها النمس المصري، والثعلب الأحمر، والذئب، و16 نوعا من الجرذان، وفي الأماكن المظلمة تكثر الخفافيش، خاصة في المناطق الأثرية والمعابد، بالإضافة إلى التكوينات الجيولوجية البديعة والمتميزة.

تتميز المحمية بالآثار والرواسب المتحجرة، والتي تحكي قصة الصمود كشاهد على كل العصور، فأسفل جبل قطراني بالجزء الشمالي للبحيرة، حجر جيري يحتوي على رواسب حفرية ثديية ونباتية ترجع إلى 40 مليون سنة، أهمها هيكل حيوان الفيوم العجيب المسمي بـ"الأرسينوثيريوم"، وهو أحد الحيوانات المنقرضة التي عاشت في شمال أفريقيا في أواخر عصر الإيوسين وعصر الأوليجوسين منذ 35 مليون سنة، وهو من الحيوانات الثديية آكلة العشب، يشبه الخرتيت في الحجم، إلا أن أقدامه تشبه أقدام الفيل، ورأسه يشبه رأس الأرنب الصخري، تخرج من رأسه قرون ضخمة.

 

ويعتبر "الإيجيبتوبثكس" من أهم الحفريات التي عُثر عليها في المحمية، لأنها تمثل حلقة وصل بين القردة في العصور القديمة والحديثة، وهي حفرية لأقدم القرود التي عاشت على الأرض منذ 32 مليون سنة في عصر الأوليجوسين، كما توجد الكثير من الحفريات المختلفة الأخرى مثل الضيوميا، والموريثريوم، وعروس البحر، وهياكل الحيتان، والأشجار والنباتات المتحجرة الناتجة عن التكوينات الجيولوجية فائقة الجمال.

 

علي شواطئ بحيرة قارون يمكن أن تري التاريخ أيضاً، حيث تضم آثار شاهدة على عصور تاريخية مختلفة، من أشهرها "قصر الصاغة" الذي يقع شمال المحمية، يرجع تاريخه للدولة الفرعونية الوسطي، عبارة عن معبد صغير يضم 7 مقصورات من الطوب الوردي، ودير "أبوليفه" الذي أنشئ في عصر الرهبنة، ويبعد حوالي 3 كيلومترات عن قصر الصاغة في بطن الجبل وفي منطقة مرتفعة بعيداً عن بطش الرومان، كما يوجد بالمحمية معبد "ديمية السباع"، الذي يرجع للعصر الروماني، ومن العصر اليوناني توجد بالمحمية مدينة "بسكتنوبايوس" القديمة التي تضم مخلفات يونانية، والتي كانت تبدأ منها القوافل التجارية المتجهة للجنوب.

كما يوجد أيضا بالمحمية معبد "قصر قارون"، الذي يعود إلى العصري اليوناني والروماني، والذي كان يستخدمه الكهنة لعبادة الإله "ديونيسيوس" إله الخمر والحب عند الرومان، والإله سوبك إله الخصوبة والبراعة العسكرية، وهو إله مصري قديم على شكل إنسان برأس تمساح، كما كان يستخدم لتخزين الغلال، أيضا توجد المحاجر الفرعونية المعروفة بإسم "مقلع ودان الفرس"، التي تعود إلى 2500 قبل الميلاد، وهي عبارة عن وحدات أثرية مترابطة.

 

وكعادة كل جميل، تتعرض البحيرة للكثير من الإنتهاكات، فالصيد الجائر ومخلفات الصرف الصحي، وصرف الأراضي الزراعية المحملة بالمبيدات والكيماويات والأملاح، أودت بحياة الكثير من الكائنات البحرية، كما أن زيادة الملوحة الناتجة عن عملية التبخر أدت إلى موت الكثير من أسماك المياه العذبة التي فقدت القدرة على التأقلم مع نسبة الملوحة الكبيرة، أما الطحالب الحمراء فزادت في البحيرة فقلت نسبة الأكسجين، ما أثر على حياة الكائنات البحرية.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية