منذ ألف عام مضت عاشت علي أرضنا، لم يصلنا عنها سوي القليل، عاشت في مدينة حلب السورية في العصر العباسي، وتحديدا بفترة حكم سيف الدولة الحمداني مؤسس إمارة حلب شمال سوريا، والذي حكم خلال سنوات 915 حتي 967، وعملت في مجال العلوم الفضائية في بلاطه، كما أنها إبنة العالم الجغرافي والفلكي المشهور كوشيار الجيلي المتوفى سنة 1029، ويعرف أيضا بكوشيار الكيلاني نسبة إلى مدينة "أستان كيلان" الإيرانية، وحتي اليوم لم يُسجل أي مؤرخ تاريخ وفاتها.
مريم كوشيار الجيلي، والتي عُرفت بإسم مريم الأسطرلابية، أحد رواد علماء الفلك المسلمين، شهد لها التاريخ مدي نبوغها في مجالات الفلك، والرياضيات، والهندسة، كان لوالدها تأثيره عليها، فقد كان أحد رواد علم الرياضيات والعلوم الفلكية في تاريخه، استفادت كثيرا من مؤلفاته في هذا المجال، والتي من أهمها "رسالة دلالات الكواكب"، و"اللامع في أمثلة الزيج اللامع"، و"الزيج الجامع والبالغ"، وتحتفظ مكتبة الإسكندرية بنسخة بخط يده من هذا الكتاب، و"الأسطرلاب وكيفية عمله واعتباره على الكمال والتمام"، و"المجمل في أصول صناعة النجوم"، و"أصول صناعة الأحكام وجملها والطرق إلى التصرف فيها وإستعمالها".
كما نرى فإن الفتاة الشابة قد نشأت وربيت في هذه البيئة الرياضية والفلكية، مما جعلها ترث هذه العلوم عن أبيها، وأن تتعمق في هذين العلمين إلى درجة إتقانها لمعادلاتهما، وحسابتهما المعقدتين، فانطلقت مريم الأسطرلابية في هذا المجال، مجال علوم الفلك الذي يطلق عليه الآن علوم الفضاء، لتبدع وتصمم وتصنع آلة الأسطرلاب "المعقد" ثم قامت بتطويره.
والاسطرلاب آلة فلكية قديمة أطلق عليها العرب "ذات الصفائح"، وهو نموذج ثنائي البعد للقبة السماوية، يظهر كيف تبدو السماء في مكان محدد عند وقت محدد، وقد رسمت السماء على وجه الإسطرلاب بحيث يسهل إيجاد المواضع السماوية عليه، وبعض الإسطرلابات صغيرة الحجم وسهلة الحمل، وبعضها الأخر ضخم يصل قطر بعضها إلى عدة أمتار.
وعلم الأسطرلاب لمن لا يعرف هو فرع من فروع علم الهيئة الذي يقصد به علم هيئة السماء، ويتناول دراسة الإجرام السماوية البسيطة ومواقعها، وحركتها الظاهرة بالقبة السماوية، وضبطها، فيعرفه حاجي خليفة بكتابة "كشف الظنون" قائلا: "هو علم يبحث فيه عن: كيفية استعمال آلة معهودة "يقصد آلة الاسطرلاب"، يتوصل بها إلى معرفة كثير من الأمور النجومية، على أسهل طريق، وأقرب مأخذ مبين في كتبها كإرتفاع الشمس، ومعرفة الطالع، وسمة القبلة، وعرض البلاد وغير ذلك".
وكلمة أسطرلاب تعني باللغة اليونانية، ميزان الشمس، وقيل أيضا إنها تعني، مرآة النجم ومقياسه، ويقال له باليونانية أيضا "اصطرلافون"، وأصطر هو النجم، ولافون هو المرآة، ومن ذلك سمي علم النجوم، أصطريوميا، وقيل إن الأوائل كانوا يتخذون كرة على مثال الفلك، ويرسمون عليها الدوائر ويقسمون بها الليل والنهار، فيصححون بها المطالع، إلى زمن إدريس، وكان لإدريس إبن يسمى لابا، وله معرفة في الهيئة، فبسط الكرة واتخذ هذه الآلة، فوصلت إلى أبيه فتأمل، وقال: من سطره، فقيل: سطر لاب، فوقع عليه هذا الإسم، وقيل: أسطر جمع سطر، ولاب اسم رجل، وقيل : فارسي معرب، من استاره ياب، أي: مدرك أحوال الكواكب".
الجدير بالذكر أن أول اختراع للاسطرلاب كان بمدينة الأسكندرية بالعصر الإغريقي كلاوديوس البطلمي سنة 320 قبل الميلاد، و أيا ما كان تعريفه، وإذا ما قارناه بمثيله بوقتنا الحالي نستطيع أن نقول إنه يمثل الـ"GPS" أو Global positioning System، النظام العالمي لتحديد المواقع، في هذا العصر الحديث.
من هنا نرى الإسهام، الهام لمريم الجيلي بابتكارها الأسطرلاب الكروي، والأسطرلاب ذي الحلق، والأسطرلابات الشكازية أو الصفيحة الشكازية، والأسطرلابات الآفاقية أو الصفيحة الآفاقية، والأسطرلاب الخطي "عصا الطوسي"، وأسطرلاب الزرقالة أو صحيفة الزرقالة، والأسطرلاب الزورقي، وكان لإبتكارها وتصنيعها لهذا الاسطرلاب بالغ الأهمية في كيفية الرصد، وتحديد الأماكن والمواقيت، وتحديد الأشهر والتقاويم أيضا، وإن لم يأت ذكرها في كتب التراجم والسير العلمية بتفصيل دقيق عن حياتها، وكيف عاشت وتوفيت هذه العالمة، فإنها أسهمت في نقلة علمية في مجال علم الفلك وتصنيع الأسطرلابات.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية