"غية الرجال.. عادة لا يمكننا الاستغناء عنها في المزاح والأفراح".. عبارة عادة ما تسمعها في صعيد مصر، حتى الأطفال تجدهم ينتحون جانباً، يصنعون حلقة كبيرة، يتوسطها طفلين يلعبون تلك التي وصفت بالغية، تُحيط أكفهم عصا يسمونها "المحبة".
"فن التحطيب".. تلك المبارزة التي أضحت غية الرجال في صعيد مصر، فن راقص، يُلعب علي أنغام المزمار، ولد وعاش بين جنبات وادي النيل، توارثناه جيلا بعد جيل، حتي أضحي جزء لا يتجزأ من تراثنا الفني وثقافتنا الشعبية.
ورغم أن "التحطيب" أحد الفنون القتالية التي ظهرت في عهود العصر الفرعوني السحيق، وضعت له قوانين وقواعد صارمة، تلك القوانين نقشها المصري القديم منذ أكثر من 4800 سنة قبل الميلاد، وتحديدا في عهد الأسرة الخامسة، عُثر علي تلك النقوش في منطقة أبو صير الأثرية، إلا إنه ظهر كفن احتفالي في هد الدولة الحديثة، أي منذ أكثر من 3500 سنة مضت، هذا التحول رصدة المصري القديم علي الجدران الآثرية بمنطقتي الأقصر وسقارة.
استمر فن التحطيب بعد عصر الدولة القديمة في مصر، ودون انقطاع طوال تاريخها، ففي عصر الدولة الوسطى، اي خلال الفترة من ٢٠٦١ حتي ١٦٦٥ قبل الميلاد، وقد صور المصريين على جدران مقابر حكام مصر الوسطى في جبانة بني حسن بالمنيا ذلك الفن، ليس فقط باعتبارها رياضة، وإنما أيضا كجزء كذلك تدريبات الجنود، كما ظهر في ذلك العصر أيضا نوع جديد من المبارزة باستخدام عصي قصيرة، فقد كان من الواضح أن مبادئ هذه الرياضة تختلف إلى حد بعيد عن مبادئ التحطيب.
أستمر تصوير التحطيب فى الأمبرطورية الجديدة، خلال الفترة من ١٠٨١ الى عام ١٥٦٩ قبل الميلاد، وتم نقشه علي جدران المعابد فى الأقصر وسقارة، فى هذا الزمن أصبح أستعراضى بخطواط ودورنات أو لفتات يتم الرقص عليها بغرض الأحتفالية للمتفرجين، ومازال هو الحال اليوم فى صعيد مصر، وخلال الأمبراطورية الجديدة حدث شيء من التطور لتلك الرقصة القتالية، فقد استفادت كعادة كل فن من فنون تلك الفترة من التطور الاجتماعي والإقتصادي لذلك العصر الذهبي.
وفي الخمسة قرون التالية عاشت مصر طفرة توسعية كبيرة، فقط امتدت اراضيها وثقافتها من الأناضول شمالا حتي الشلال الرابع والحبشة جنوباً، وحتي في زمن الضعف، خاصة في العصرين اليوناني والروماني، كان لفن التحطيب حضورة الثقافي والتراثي القوي، حتي أن الأدب المسيحى البدائى ذكر أنه للترفيه ونوع من الفن الشعبى يظهر فى الأعياد والأفراح.
تاريخ وغموض
رغم أن فن التحطيب يُعد من أكثر الفنون القتالية الإحتفالية تصويرا علي جدران المعابد والمقابر المصرية، ولم تنقطع نقوشه طيلة مختلف العصور والتاريخ المصري، خاصة خلال الفترة من عام 2700 قبل الميلاد، وحتي دخول الاسكندر الأكبر مصر في ٣٣٢ قبل الميلاد، إلا أن تاريخ بداية معرفة المصري القديم للتحطيب، وممارسته لهذه الرياضة، لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض.
وقد وجدت صور ونقوش لمشاهد التحطيب علي أهم الآثار المصرية، على جدران أهرامات ملوك الأمبراطوريات القديمة، كما ترصد نفس المعابد مناظر المدربين الذين يشجعون تلاميذهم، ويقومون بتقديم تدريبات على قوانين التحطيب، بالإضافة إلي صور التحطيب موضوعة على لوحة الأنشطة البدنية فى مصر القديمة بين الرماة والمصارعة، ولأهميتها تم توصيفها فى أهرامات ملوك الأمبراطورية القديمة.
واليوم يمارس فن التحطيب بطرق مختلفة، أهما احتفاظه كفن قتالي، وكرقص فلكلورى، كتقليد قروي، كلعب العصا، كرياضة، وكتقنية للدفاع عن النفس، وكان الإحترام المتبادل والشجاعة والفروسية، أهم الطقوس والقيم الأخلاقية التي فرضها هذا الفن علي كل من يلجأ إلي العصا للمبارزة، فكلا الطرفين يعلمون جيدا أن العصا المستخدمة ليست عصا عدوان، وإنما هي عصا محبة لحفظ الحقوق وإقرار السلام، والحفاظ على هذه القواعد دليلا على التمسك بالنُبل والشهامة.
وتعتبر هذه القيم الأخلاقية حجر الأساس الذي حكم عصر الفتوات، الذي بدأ ينتشر في عصر الخليفة الناصر العباسي، وتحول إلى نظاما يتبعه شخصيا، بعد أن جعل نفسه "كبير الفتوات"، والحقيقة أن الأديب المصري الكبير "نجيب محفوظ" استطاع أن يظهر أخلاق حمل العصا، الذي عُرف في ذلك العصر بالنبوت، في كثير من مؤلفاته، أشهرها رواية الحرافيش، فالفتوة إذا تحداه خصما لا يتدخل بينهم ثالث، وإذا هزمه يأخذ مكانه، ويخضع الجميع لنبوته، ويطيعوا أوامره.
ورغم أن التحطيب كفن قتالي وراقص كان مقتصرا على مصر، إلا أن تميزه جعله نبعا إرتشفت منه كثير من الحضارات مثل الكيندو الياباني، والمبارزة القديمة التي انتشرت في معظم الحضارات الغربية، وتتشابه طقوسها وأخلاقياتها مع الجذور القديمة للتحطيب الفرعوني، ومؤخرا قامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، بإضافة "التحطيب" المصري إلى قائمتها التمثيلية للتراث الثقافي للبشرية.
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية