"كم أنا سعيد لأنني سأزور مصر.. سعيد لأنني سأري أهرامات أجدادي اليهود".. عبارة حماسية مصحوبة بضحكة ساخرة أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي "مناحيم بيجن" وهو ينظر من نافذة الطائرة التي أقلته والرئيس السادات عام 1979 أثناء زيارته إلي مصر، عبارة كان الهدف منها استثارة غيظ الرجل الذي هزمه في حرب أكتوبر ونجح في انتزاع معاهدة سلام أعادة سيناء بشكل كامل إلي مصر.
السادات كعادته رسم ضحكة أكثر سخرية، نافخا دخان غليونه، متذكرا نفس الموقف قبل عام في "كامب ديفيد" حينما قال لرئيس أمريكا، "إن الجهد الذي بذله جيمي كارتر في الإتفاقية أكثر من الجهد الذي بذله أجدادنا في بناء الأهرام"، فقد كان يعلم أن الخطوة الثانية للكيان الصهيوني بعد أن فشل في السيطرة علي الأرض والعقول هي "سرقة التاريخ" بكل ما فيه.
"الآثار المصرية في "تل أبيب" ملف مهمل ولن تفتحه الدولة".. عبارة اتفق عليها خبراء الآثار وعلم المصريات، مبينين أن الدولة المصرية لا تحترم إتفاقية "لاهاي" التي أبرمت في عام 1954 وتنص علي عودة كل الآثار التي سُرقت في فترات الاحتلال إلى أهلها، وأن إسرائيل قامت بنقل عشرات ومئات الآثار المصرية أثناء احتلالها لسيناء خلال الفترة من 1967 حتي عام 1981.
"عملات ذهبية للإمبراطور البيزنطي هرقل.. دبوس من الفضة مزخرف برأس كوبرا.. رءوس سهام فرعونية من البرونز.. كتلة حجرية على أحد وجهيها منظر يمثل الملك أمام الآلهة حتحور وبين الملك وحتحور إناء صلب كبير.. لوحة الملك تحتمس الثالث أعلاها قرص الشمس المجنح والحية.. جزء من تمثال رملي على هيئة أبو الهول بشكل أسد يظهر جالسا على الجزء الخلفي وساقاه الأماميتان عموديتان وينظر للأمام.. تجهيزات حربية خاصة بالعجلة الفرعونية الحربية الشهيرة.. ألواح من المرمر عليها نقوش بالحروف اليونانية.. مجموعات من مصابيح الزيت.
قائمة طويلة لا تنتهي من الآثار المصرية سرقها "لصوص التاريخ" واعترف أحد اشهر مؤرخيهم الأثريين "أورين" في 1994 في أحد مؤلفاته، وحدد مواقع سرقتها من سيناء في مناطق "الفاو سيات" و"القلس" و"بئر العبد" و"الخروبة" و"تل المحمديات" وقصرويت"، بالإضافة إلي "سرابيط الخادم" وهى نفس المنطقة التي كان يُنقب فيها دايان عن الآثار المصرية.
مافيا ديان
"فشل في معارك الصحراء.. فراح ينبش الرمال بحثا عن أصول المصريين".. عبارة لخصها خبراء الآثار وعلم المصريات في شخصية الإسرائيلي "موشي ديان" الذي وصفوه بأنه أول من شكل مافيا صهيونية مثلت "كتائب" لسرقة الآثار المصرية، فطبقا لمركز الدراسات الأثرية والنشر العلمي بسيناء قام وزير الدفاع الإسرائيلي أثناء احتلال إسرائيل لسيناء بالسطو على 35 تابوتا حجريا فريدا يعود لعام 1400 ق. م وتماثيل للمعبودة حتحور وعدد 120 لوحة أثرية من معبد سرابيت الخادم وعدد 15 قطعة أخرى محفوظة بمتحف بن جوريون، وقام بنقلها بطائرات الهليكوبتر إلي إسرائيل بالتعاون مع معهد الآثار بجامعة تل أبيب.
"العيش مع التوراة".. كتاب في منتهي الخطورة خرج في عام 1978 يعترف من خلاله موشي ديان كيف انه تمكن من تكوين مجموعة أثرية مصرية بالاستيلاء عليها من سيناء وبأسلوب غير شرعي، وانه علي الرغم من أن مصر تمكنت من استعادة بعض هذه القطع إلا انه لا يزال يمتلك الكثير من القطع، مبينا انه قام بزيارة وسط سيناء وتحديدا منطقة "سرابيط الخادم" مرتين في 1956 و1969، وانه بعد شهر من الهجوم علي سيناء نزل مع عدد من الجنرالات في طائرة هليوكوبتر في منطقة آثار سرابيط الخادم وأخذ عددا من اللوحات الأثرية بالمنطقة ونقلها إلي منزله في تل أبيب بطائرة عسكرية.
الغريبة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي وأثناء فترة احتلاله لسيناء قام بنقل الكثير من المخطوطات والآثار الموجودة فى شبه جزيرة سيناء، بل وافتتحت وزارة الثقافة قاعة متحفية فى مدينة القنطرة لعرض الآثار العائدة من إسرائيل، تحت اسم "مجموعة موشى ديان"، وتضم 20 ألف قطعة أثرية تم استخراجها من 35 موقعا أثريا فى شمال وجنوب سيناء، وتشمل عددا من اللوحات الأثرية المهمة التى ترجع إلى العصر اليوناني الروماني، والمصنوعة من الحجر الجيري بأطوال وأحجام مختلفة، على هيئة "شواهد قبور" مكتوب عليها اسم المتوفَّى ومهنته وعمره، وكان الجيش الصهيوني قد استولى عليها من منطقة الخوينات جنوب مدينة العريش فى محافظة شمال سيناء.
الكارثة أن خبراء الآثار وعلماء المصريات أكدوا علي أن إسرائيل استغلت اضطرابات ما بعد ثورة 25 يناير وقامت بسرقة 1200 قطعة أثرية من متحف القنطرة، وهى القطع التى تم استردادها من إسرائيل مسبقا، بالإضافة إلي تسجيل ما يقرب من 1400 قطعة أثرية.
غرام الأفاعي
الحقيقة أن الولع الإسرائيلي بجمع الآثار المصرية لا يعود لحملة موشي ديان في سرقة الآثار، وقد يكون في فلسفته سابق علي تصريحات مناحم بيجن المستفزة للرئيس السادات الذي تجاهله مرتين، ولكنه يعود إلي شعب أراد أن ينسب له تاريخ وهمي فادعي انه باني الأهرامات المصرية عندما كان يتم استعباده في مصر، رغم أن جميع الدراسات والأبحاث الأثرية الحديثة أثبتت عكس ذلك.
"تخلوا عن الاهرامات فنحن لم نبنيها.. وطالبوا بـ"الكولوسيوم" فنحن بنيناه بالكرابيج".. كان هذا اخطر اعترافات واحد من أهم الباحثين الأثريين الإسرائيليين الدكتور "سيمشا جاكوبوفيشي" الأستاذً في قسم الأديان في جامعة هنتنغتون في أونتاريو، مبينا أن الاهرامات موجودة منذ آلاف السنين قبل ميلاد موسى، وان المصريين مضطرين فقط لدفع ثمن سنوات العبودية، وان العبيد اليهود تمكنوا من بناء مدرج الكولوسيوم الروماني، وقطعوا حجارته، كما أن المال الذي استخدم في تمويل عملية البناء، نهبه الرومان من القدس سنة 70 ميلادية.
سلسلة مقالات الباحث "سيمشا جاكوبوفيشي" تحت عنوان "احتفظوا بالأهرامات وأعطونا الكولوسيوم" رغم إنها شكلت اعترافا الأول من نوعه من جانب عالم آثار إسرائيلي، إلا أنها كشفت عن حجم مأساة من نوع آخر، وهي الآلية التي تمكن بها الأثريين من الدخول إلي القاهرة للتنقيب عن الآثار تحت مظلة المؤسسات الدولية متعددة الجنسيات.
الفراعنة في إسرائيل
"أثارنا في شوارع تل أبيب.. وصفحات الانترنت".. بتلك العبارتين أطلق الدكتور بسام الشماع المؤرخ وأستاذ علم المصريات وعضو الجمعية التاريخية وأحد أشهر رجالات التاريخ حملته الصارخة لإسترداد أثارنا من "تل أبيب"، فوفقاً له قامت إسرائيل بإنشاء أكبر تمثال للمصري القديم وتقليد كامل لأوبرا عايدة في 2011 بمنطقة "متسادا، كما أن الكيان الصهيوني مثلما سرق التاريخ وسرق الفن والآثار سرق الفلافل المصرية وقدمها للأجانب على أنها من التراث الإسرائيلي.
الغريبة أن المتاحف الإسرائيلة لا تعرض أي شيء سوي الآثار المصرية، ولدي "الشماع" بالفعل مئات وآلاف الصور الحصرية لتلك الآثار المنهوبة، ويمكن لأي إسرائيلي أو أي سائح أن يدخل لزيارة تلك الآثار بـ16 دولار فقط، فلدي إسرائيل مملكة من الآثار المصرية، ما بين تابوت ملون وأواني كانوبية التى كان يحفظ فيها الطعام والماء ومناظر منحوتة للخيول النادرة وتماثيل لأرباب أسطورية مصرية قديمة مثل أزوريس "حتحور" ومرايا مصنوعة من المعدن وتمثال للسقطة المصرية السوداء "باستيت" وتمثال للطائر "أب منجل" وبعض الأحجار التى كانت يستخدمها المصري القديم في إرساء السفن.
الأكثر من ذلك أن إسرائيل لديها في متحف الفن الإسلامي آثار إسلامية من ذهب وفضة وزجاج وملابس وصورة مجسدة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام والصحابة وسيدنا على إبن أبي طالب وأول ساعة أتوماتيكية مائية للمخترع المصري "الجزري"، كما يوجد بها مخطوطة للمخترع الإسلامي توضح خطوات اختراعه للساعة الأتوماتيكية، وتعد الوثيقة الوحيدة الموجودة في العالم.
عائلات الآثار
لدي إسرائيل عدد من العائلات التي تحترف مهنة الإتجار في الآثار المصرية، علي رأسها عائلات "علاء بيدون" و "ماهر عويضة" التي تتاجر في الآثار المصرية من خلال معارض شرعية فى تل أبيب، بل وتعطي شهادات تؤكد أصالة الأثر المباع، وكثيراً ما يؤكدون إنهم إشتروا تلك الآثار عن طريق بعض المزادات فى أوربا، وهنا الكارثة الحقيقية، فإسرائيل إحدي الدول القلائل التي لم توقع علي اتفاقية "اليسد" والخاصة بالإتجار غير الشرعي للآثار والتي تتبع إتفاقية اليونسكو لسرقة التراث والحضارات دون أي مسألة قانونية والذى يتيح لها أيضاَ بيع الآثار والإتجار كما أن القانون الإسرائيلي لا يجرم بيع الآثار.
وهناك بالفعل ثلاث قضايا مرفوعة في المحاكم الإسرائيلية أحدهما لاسترداد 91 قطعية أثرية تم عرضهم فى مزاد علني فى القدس وعلى المواقع الإلكترونية الإسرائيلية لبيعها، وقضية أخري لاسترداد خمس قطع أثرية، وأخري بإسترداد قطعتين، وإن كانت أغلب القطع الأثرية المصرية داخل إسرائيل ليست مسروقة، وحصلوا عليها بصورة شرعية من دول أخري، خاصة وان القانون المصري فى الثمانينات لم يكن يجرم بيع الآثار، بل وكانت تباع فى المتاحف المصرية بصورة شرعية لذلك بعض تلك الآثار لن نستطيع المطالبة باستردادها.
وفى نهاية 2013 علمت وزارة الآثار في مصر بمزاد علني فى القدس لبيع الآثار المصرية، وكانت تديره أحد العائلات الإسرائيلية، فتواصلت مع السفارة المصرية فى تل أبيب، وتمكنت من إيقاف ذلك المزاد عبر الشرطة الإسرائيلية وتحفظوا على 91 قطعة أثرية مصرية، وعلى الفور توجهت برفع دعوى قضائية أمام المحاكم الإسرائيلية لاسترداد تلك القطع التى لم يثبت مالكها حصوله عليها بصورة شرعية، وأعلنت الحكومة المصرية إنها سترسل خبيرا في الآثار للإدلاء بشهادته أمام المحاكم الإسرائيلية وإثبات ملكيتها لمصر.
الغريبة أن ماهر عويضة صاحب متجر الآثار الإسرائيلي، رد علي مصر في صحيفة "هآرتس" العبرية وقال إنه ضحية لـ"خطة إسرائيلية مصرية"، في أعقاب قيام هيئة الآثار الإسرائيلية بمصادرة 90 قطعة أثرية من متجره العام الماضي، مشيرا إلى أن مفتشين تابعين لهيئة الآثار الإسرائيلية داهموا متجره، وطلبوا منه تسليم 90 قطعة أثرية، تتضمن تماثيل برونزية وحجرية، بالإضافة إلى أوان صلصالية وغيرها، وأن الهيئة سبق لها منحه ترخيصا ببيع تلك القطع الأثرية، مدعيا أنه اشتراها بصورة قانونية من تجار مرخصين.
الحاخامات الإسرائيليون بدورهم دائما ما يراقبون ويتابعون ويبحثون عن آثار محافظة الشرقية، ووفقا لخبراء الآثار المصريون لا يدخرون جهداً لإثبات أى نسب تاريخي لهم بتلك المنطقة، على اعتبار أنهم أثناء خروجهم من مصر مروا من أرضها، لذلك نراهم بين الفينة والأخرى يتحايلون ويرسلون علماء آثار ومنقبين بهويات وجنسيات وهمية للنبش والتنقيب فى تلك المنطقة، وإدعوا إنهم أثناء تنقيبهم اكتشفوا أجزاء من تمثال أبو الهول مدون عليها أحد أسماء الملوك الفراعنة.
ولإسرائيل ولع كبير بالآثار المصرية وبالأخص تمثال "أبي منجل" رب الحكمة عند الفراعنة، والذى تم تحنيط الآلاف منه فى العصر الفرعوني، وكان يقدم كقرابين للرب عند المصري القديم، وقد أهدي الرئيس محمد أنور السادات عشرة تماثيل من أبي منجل لرؤساء الدول الأجنبية في عهده، وقد أعد "الشماع" ملفاً متكامل لكل الآثار المصرية المنهوبة من مصر سواء فى إسرائيل أو الخارج وقدمها لبعض الجهات السيادية ولوزير الآثار ممدوح الدماطي، كما انه طالب بان تتجه مصر إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي لاسترداد آثارنا بدلاً من الذهاب للمحاكم الإسرائيلية ولكن لا حياة لمن تنادي.
الكثير من متخصصي الآثار والتاريخ المصري طالبوا مصر بسرعة الإنسحاب من اتفاقية اليونسكو التي أبرمت في عهد الرئيس السادات فى أوائل السبعينات لاحتوائها على بنود غاية فى الخطورة على رأسها حصول المنقبين الأجانب فى مصر على حصة من الآثار المكررة المكتشفة وتبادل الهدايا الأثرية بين رؤساء الدول، مؤكدين أن الانسحاب من الاتفاقية سيفيد مصر كثيراً فى إطار استعادة الآثار المنهوبة، وان كان القانون في مصر يحتاج لتعديلات لحماية الآثار المصرية من النهب والسرقة.
وفي الأول من سبتمبر عام 2012 ذكرت القناة السابعة العبرية "عاروتس شيفع" أن المحامي الإسرائيلي "إسحاق ميلتسر" تقدم بطلب رسمي لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بتعطيل إعادة أغطية التوابيت الفرعونية المسروقة التي تم ضبطها في أحد أسواق القدس حتى يتم الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي "عودة ترابين"، خاصة وأن القانون الإسرائيلي يتيح لتاجر الآثار الذي أشترى منتجات من تاجر آخر، مواصلة الإحتفاظ بالقطع الأثرية، حتى لو أتضح له بعد فوات الأوان أنه اشترى بضاعة مسروقة.
باحثة في الشئون الإسرائيلية
مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية