"عزت عبد العزيز".. مصري كشف النووي الإسرائيلي منذ 60 عام

"يبدوا إنك من مصر يا عزيزي".. أخرجت تلك العبارة الإنجليزية الشاب المصري الذي اندمج في مطالعة بعض الأوراق التي شغلته عن تناول حسائة داخل غرفة الطعام الرئيسية بمعمل أرجون القومي في الولايات المتحدة الأمريكية، نظر الي محدثه مبتسامًا قبل ان يمد يده مرحبًا: "هذا صحيح يا صديقي.. إسمي عزت عبد العزيز.. تفضل شاركني الغذاء".

 

جلس الرجل داعيًا رفيق لم ينتبه إليه الشاب في بادئ الأمر، بديا من هيئتهما أنهما ينتميان إلي مواطني أوروبا الشرقية، جاءا الي الولايات المتحدة الامريكية لتلقي تدريبات متقدمة في علوم الطاقة الذرية، كانت بشرتهما البيضاء وملامحهما الجامدة تشير الي بيئتهما الريفية الثلجية التي خرجا منها، أخرجه من شروده نحنة أحدهم فالتفت إليه ليبادرة قائلًا بلغة إنجليزية ركيكة: "انت هنا ضمن فريقًا علميًا مصريًا؟، أم انك تتلقي علومًا بشكل مستقل مستر عزت؟".

 

تعجب الشاب من هذا التساؤل العجب، بحث كثيرًا عن تفسير منطقي لتلك الحالة من القلق والريبة، والتي انتابته فجأة من هذين الشخصين، لقد رأهما غريبي الأطوار، متطفلين بعض الشيء، رغم ذلك ابتسم قائلًا: "هناك أكثر من طالب مصري يتلقون علومهم هنا في أرجون.. ولكن هذا لا يعني اننا نعمل في فريقٍ واحد.. أو ان الحكومة المصرية ارسلتنا إلي هنا يا صديقي".

"أنا من اسرائيل".. كانت العبارة التي قلبت أجواء الطاولة رأسًا علي عقب، فعزت عبد العزيز ذلك الشاب الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثون من عمره، لايزال يذكر ما فعلته تلك الدويلة المحتلة من مجاذر في حق الشعب الفلسطيني عقب اعلان دولتها منذ عشر سنين، كما انه رأي بعينه كيف ان جنودها حاولوا ان ينتزعوا سيناء في عدوانهم الثلاثي منذ عامين فقط، وكيف ان آلتهم لم تفرق بين طفل وكهل، بين إمراة وفتاة.

 

تنحنح الإسرائيلي وقد شعر بما يعانيه الشاب من انفعالات بمجرد ان أفصح عن جنسيته، فإقترب منه قائلا بصوت حاول ان يجعله هادئًا: "نحن باحثين يا صديقي.. وداخل أروقة البحث والعِلم تذوب الجنسيات.. والعلوم لا تعرف السياسة.. وليس لها آي علاقة بما يحدث في الشرق الأوسط"، لم يقتنع الشاب المصري بما قاله، ظل صامتًا لم يتفوه بكلمة، راود عقله الكثير من الأسئلة، ماذا يفعل هذين الإسرائيليين هنا؟، وهل لوجودهم في أرجون أي علاقة بوجود الفريق المصري؟، هل هناك أي خطورة كونهم إسرائيلي الجنسية علي حياتهم؟، وماذا يفعل؟ هل يُلغي تلك الرحلة العلمية؟، أم يبلغ القاهرة بما حدث من حوار بينهما؟.

 

"إسمحا لي بالإنصراف.. فلدي مطالعة بالمكتبة المركزية".. هكذا قطع عزت عبد العزيز تساؤلاته، وقبل ان يتلقي منهما إجابة، شرع في لملمة أوراقه لينصرف بهدوء، تاركًا خلفة رجلان في حيرة من أمرهما، أما هو فانطلق الي المكتبة ورأسة تكاد تنفجر من التساؤلات، كان أخطرهم علي الإطلاق، هل خدعتهم الولايات المتحدة الأمريكية وقامت باستدراجهم الي مراكز أبحاثهم ليتعاونوا مع العلماء إسرائيل ليبنوا برنامجهم النووي بالإستفادة من خبراتهم كعلماء زائرين في علوم الذرة؟.

بعد سته عقود

 

هذه الواقعة حدثت منذ ستون عام داخل مركز "أرجون" البحثي الأمريكي، انشغل الشاب المصري عزت عبد العزيز بأبحاثة بالمركز، وبمجرد ان انتهي من دورتة بمركز "أرجون" عاد الي مصر عام 1962، ليبدأ عملة بهيئة الطاقة الذرية وبمركز الأمان النووي، حتي تقلد منصب رئيس الهيئة، وداخل منزلة بحي الزمالك باللقاهرة قرر ان يفصح عن بعض التفاصيل التي عايشها منذ ستة عقود.

 

أكثر ما يُحزن الدكتور عزت عبد العزيز، والذي وصف بـ"أبو البرنامج النووي المصري"، أنه طيلة تلك السنوات الستون، لم تهتم الدولة المصرية بحكوماتها المتعاقبة بتلك الحادثة، بل أنها لم تأخذ بعين الإعتبار تلك المذكرة التي كتبها عام 1959، وحتي اليوم لم يتلقي أي رد عليها، رغم علم الجميع مدي استغلال الكيان الإسرائيلي لوجود البعثات المصرية في تدريب كوادره الشابة، وأن تلك الحالة بدأت منذ عهد الدكتورة نبوية موسي، ما ساهم في بناء مفاعل ديمونة والبرنامج السري لاسرائيل.

 

في عام 1984 قام البنتاجون بنشر وثيقة سرية برقم "WR15-84"، فضح من خلاله السر النووي الإسرائيلي، منذ ان بدأت البعثات العلمية في مركز "أرجون" للأبحاث النووية، كما ان المعلومات التي قالها الشابان الإسرائيليان جعلت الدكتور عزت يتابع أعمالهما وأبحاثهما، وقد لاحظ دخولهم معمل سري ومحظور علي الوافدين الاجانب، يحمل اسم "Technology plutonium"، خاص بتكنولوجيا استخلاص البلوتونيوم، وكان يحمل علي بابة عبارة "سري للغاية" لا يدخله سوي عدد قليل من العلماء الأمريكان.

"شعرت بالقلق.. وقررت مراقبتهم".. هكذا اجاب علي سؤالي عن ماذا فعل بمجرد ان شاهدهم يدخلون هذا المعمل، خاصة وانهما افصحا عن نوعية العمل، وعن الاستاذ اليهودي الأمريكي الجنسية الذين يعملون تحت قيادته، وفي أحد الأيام، وجد المشرف اليهودي، الأمريكي الجنسية يجلس بمفرده في الإستراحة، فجلس بجواره ليستفسر منه عن معمل البلوتونيوم، ولماذا هو محرم علي الكثير من الباحثين، وأضحي حكرا علي الإسرائيليين، ولكنه تخوف منه وتركة وغادر الإستراحة دون أن يتحدث بكلمة واحدة، ولكنه أصدر قرارًا بمنع الباحثين الإسرائيليين من الإختلاط به.

 

مفاعل ديمونة

 

في مايو 1959، أي بعد عام من ذلك اللقاء المريب بين الشاب عزت عبد العزيز، وبين هذين الإسرائيليين في مركز أرجون، وأثناء مطالعته لإحدى الصحف الأمريكية، لفت إنتباهه خبر صغير يقول نصل: "فرنسا تعقد اتفاقية مع إسرائيل لبناء مفاعل في ديمونه من النوع الذي يعتمد علي الماء الثقيل"، ما زاد من قلقه وريبته، فإسرائيل حتي قبل نشر هذا الخبر، لم يكن لها أي أنشطة نووية، كما أن ذات الخبر يؤكد أن هناك تدريبات فعلية لباحثين إسرائيليين في معمل تكنولوجيا البلوتونيوم، وأن فرنسا ستبني مفاعلا من النوع الكاندو الذي ينتج البلوتونيوم والذي يدخل في إنتاج القنابل الذرية.

 

ألقي عزت عبد العزيز الصحيفة الأمريكية أرضًا، ثم أسرع إلي السفير المصري في واشنطن في ذل الوقت، السفير اشرف غربال ليخبره بقصة خبر مفاعل ديمونه التي تريد فرنسا إنشائه، وكيف إنه سيعتمد علي استخراج البلوتونيوم، وانه أعد مذكرة رسمية بكل التفاصيل التي حدثت داخل مركز الأبحاث الأمريكية في خطاب سري، وأبلغه ضرورة نقل المزكرة إلي القاهرة للضرورة، ولكنه كالعادة لم يتلقي اي رد حتي اليوم.

وقبل احتفالات رأس سنة عام 1965، تلقي الدكتور عزت عبد العزيز، إتصالًا هاتفيًا من السفارة الأمريكية، تطلب منه مقابلة باحث أمريكي، يقوم بعمل بحث عن مدي انتشار التكنولوجيا النووية في الشرق الأوسط، من خلال مقابلة خبير من كل بلد عربي، وعندما سأله عن سبب اختياره، قال انه قرأ عنه في كتاب مهم لباحث بريطاني من أصل هندي يُدعي "شام باتيا"، حذر فيه الحكومة المصرية من اتجاه إسرائيل لإنشاء ترسانة من الأسلحة النووية، فتعجب الرجل من الكيفية التي علم بها ذلك الهندي تلك التقارير السرية التي أرسلها للقاهرة.

 

بحث طويلًا الدكتور عزت عبد العزيز عن كتاب "التنافس النووي في الشرق الأوسط"، لمؤلفه "شام باتيا"، حتي أنه كلف زوج إبنته الدكتور "فطين"، والذي كان يعمل بالسفارة الأمريكية مسئولا عن المعونة المقدمة لمصر، ليبحث له عن نسخه من الكتاب، ولكن بعد فوات الأوان، فقد اصدرت واشنطن قرار بمنع صدوره أو تداوله، ولكنه نجح فقط في الحصول علي صورة ضوئية من الصفحة 65 من الكتاب، والي جاء فيها نصًا: "في عام 1959، وفي مركز أراجون للبحوث النووية بأمريكا، لاحظ عالم شاب وجود إثنين من العلماء الإسرائيليين، يعملون في نفس مركز البحوث بأراجون، ويجرون بحوثًا عن إعادة معالجة البلوتونيوم، وأمام انزعاجه لما رآه، اخطر المسئولين في مصر بخطورة اهتمامات الإسرائيليين بتكنولوجيا البلوتونيوم، أو وقود القنابل الذرية"، هذا العالم المصري هو الدكتور عزت عبد العزيز الذي تم تعيينه فيما بعد رئيسا لمركز البحوث النووية بانشاص.

 

وفي الصفحة 66 من الكتاب جاءت أغرب فقرة، وتقول نصا "كان دكتور عزت عبد العزيز عالم الذرة المصري قد دعي بقرار الرئيس السادات لإنشاء الطاقة الذرية الليبية (لأسباب قومية) في الفترة من عام 1971 حتي عام 1980، وخلال هذه السنوات التسع التي أمضاها في ليبيا- طبقا لما نشره كتاب "التنافس النووي في الشرق الأوسط" الذي صدر في انجلترا في الثمانينات، كان الدكتور عزت عبد العزيز المستشار الرئيس القذافي، وساعده في التفاوض لإبرام اتفاقيات تعاون نووي مع حكومة الاتحاد السوفيتي وفرنسا، كما انه أسس مؤسسة الطاقة الذرية في ليبيا بما في ذلك مختبرا متخصصا للاندماج النووي.

لم تنتهي القصة عند هذا الحد، ولكنها أيضًا لم تبدأ في أراجون، فمنذ عقود قليلة، وتحديدا في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، ومنذ اللحظة الأولي لبدء سلسلة الهجرات الإستيطانية لأرض فلسطين المحتلة، دخل الكثير من العلماء اليهود الموهوبين، كان أبرزهم الدكتور "أرنست دافيد بيرجمان"، والذي أصبح فيما بعد مديراً لهيئة الطاقة الذرية في إسرائيل، ومؤسس الجهود الإسرائيلية في السعي لتطوير أسلحة نووية، كما أنه كان صديقاً مقرباً لأول رئيس وزراء إسرائيلي، "ديفيد بن غوريون"، ومستشاراً علمياً له، ونبههم إلى أهمية الطاقة النووية في التعويض عن الموارد القليلة، والقوة العسكرية المحدود، في مواجهة بحر من الأعداء حول إسرائيل، مركزا على وجود طاقة نووية واحدة وليس اثنتين، بمعنى أن يكون أنتاج أسلحة نووية جزء طبيعي من مخطط إسرائيل لتوليد الطاقة النووية.


بدأ علماء إسرائيل، وبناء على أوامر صدرت لهم من وزارة الدفاع, في التنقيب عن اليورانيوم في صحراء النقب، وبحلول عام 1950، كانوا قد عثروا على مخزون محدود قرب "بئر السبع"، عندها بدأوا العمل في تطوير طريقة علمية لإنتاج الماء الثقيل بطاقة منخفضة، كما قام معهد "وايزمان" للعلوم بدعم البحوث النووية منذ عام 1949، وتحت إشراف الدكتور "بيرجمان"، الذي رأس قسم الكيمياء بالمعهد، وكان يُخرج الكثير من البعثات من الطلبة، والذين أظهروا نبوغًا وتميزًا لدراسة الهندسة النووية والفيزياء على نفقة الحكومة الإسرائيلية، حتي أسست إسرائيل وكالتها للطاقة النووية عام 1952.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية