شيخ المداحين الذي تنبأ بموته

"الشيخ النقشبندي".. صوت من السماء تحول إلي علامة رمضانية

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة عام 1920 الباردة جاء إلي هذه الدنيا، طفل صغير، لم يكن كاي طفل ولد بتلك القرية من قبل، فكل الشواهد تؤكد أن قرية "دميرة" الصغيرة بمحافظة الدقهلية، سيكون لها صيت عظيم بمولده، لتُصبح موطن شيخ المداحين، وقيثارة الإنشاد الديني، كما سيُحب أن يلقبه عموم الشارع المصري، أقباطه قبل مسلميه.

 

لم يكن الشيخ سيد محمد النقشبندي مجرد مداح، أو صاحب مجموعة من التواشيح أضحت الأشهر في تاريخ المدح الديني، ولكنه كان صاحب مدرسة متميزة في عالم الإبتهالات، جعلته أحد أشهر المنشدين والمبتهلين في تاريخ الإنشاد الديني، خاصة وأنه يمتلك صوتًا رآه أكبر الموسيقيون أحد أقوى، بل وأوسع الأصوات مساحة في تاريخ التسجيلات.

وكما يُقال دائمًا، أن الإنسان يحمل من إسمه نصيبًا، كان للنقشبندي حظًا من ذلك اللقب، فكلمة "نقشبندي"، كما فسرها العارفون بأمور اللغة العربية، تتكون من شقين، "نقش" و"بندي"، ومعناها في اللغة العربية "القلب"، أي "نقش حب الله علي القلب"، كما أن "النقش بند" باللغة الفارسية تعني الرسام أو النقاش، والنقشبندي نسبة إلى فرقة من الصوفية يعرفون بالنقشبندية، ونسبتهم إلى شيخهم بهاء الدين نقشبند والذي توفي عام 791 هجرية.

 

إرتبط النقشبندي كثيرًا بشهر رمضان، علي الأخص وقت الإفطار، فكان صوته القوي، والذي كان ينطلق من القلب قبل أن يخرج من الشفاه، يمس القلوب مهما اختلفت لغات المسلمين، لذلك قالوا عنه أنه صوت من السماء، ولكنه تحول إلي علامة رمضانية بارزة، دائمًا ما يقدم وجبة إيمانية رائعة من الإبتهالات والتواشيح الدينية، ما جعله يؤسس مدرسة جديدة في عالم الإبتهالات لأول مرة.

كان لحياة النقشبندي المتنقلة دور هام في تكوين شخصيته في عالم المديح والإبتهالات، فقبل ان يتخطي الثامنة عامًا اضطر للإنتقال مع أسرته إلي مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، وهناك حفظ القرآن الكريم علي يد الشيخ أحمد خليل، وكعادة أطفال ذلك الزمان، كان يتسلل بين الحين والأخر إلي حلقات الذكر والمدح، والتي كان يعقدها أنصار ومريدي الطريقة النقشبندية، ولم يكتفْ بذلك، ولكنه تردد أيضًا علي بعض الموالد للإستماع إلي إبتهلات المشايخ في موالد أبو الحجاج الاقصري، وعبد الرحيم القناوي، وجلال الدين السيوطي، ما أهلة لحفظ أشعار البوصيري وابن الفارض وغيرهم من شعراء المتصوفة.

 

ذاعت شهرة النقشبندي وهو في الثلاثين من عمره، ما جعله يستقر عام 1955 في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، ومنها إنطلق علي العالمية، فتلقي دعوات لإحياء حفلات الإنشاد الديني في المدن السورية، وذلك بدعوة من الرئيس السوري حافظ الاسد، كما زار الأردن وإيران واليمن وإندونسيا والمغرب العربي ودول الخليج ومعظم الدول الأفريقية والآسيوية.

شكل عام 1966 نقطة فاصلة للشيخ النقشبندي، ففي ذلك العام إلتقي صدفة بالإذاعي الأشهر أحمد فراج، صاحب البرنامج الإذاعي الشهير "نور علي نور"، ليسجل معه بعض الإبتهالات الدينية، وذلك لبرنامج "في رحاب الله"، لتتوالي البرامج الإذاعية في التسجيل معه، علي الأخص البرنامج الإذاعي "دعاء"، والذي كان يذاع عقب آذان المغرب، قبل أن يشترك في تقديم حلقات برامج تليفزيونية، ليقدم من خلالها إبتهالات من ألحان كبار الموسيقيين، أمثال محمود الشريف وسيد مكاوي وبليغ حمدي وأحمد صدقي وحلمي أمين.

 

"النقشبندي مثل النور الكريم الفريد الذي لم يصل إليه أحد".. بتلك العبارة الفريدة من نوعها وصف الطبيب والفيلسوف الأشهر، وصاحب "العلم والإيمان"، الدكتور مصطفي محمود، الشيخ سيد النقشبندي، في برنامجه، ما يعني أنه وبصوته العذب تمكن من أن يآثر العقول والقلوب، فقد كان طبقًا لخبراء الصوتيات، صوته ذو ثمانية طبقات، أي أنه يقدم الجواب، وجواب الجواب، وجواب جواب الجواب، وأن صوته يتأرجح ما بين الميترو سوبرانو، والسبرانو نفسه، ما أهله لدخل الإذاعة المصرية عام 1967، وترك للإذاعة ثروة من الأناشيد والابتهالات، إلى جانب بعض التلاوات القرآنية لدى السميعة.

 

"أشعر أنني سأموت اليوم، أوصيكم خيرًا بزوجتي وأولادي".. عبارة مثيرة للجدل وجدت في جيبه عقب سقوطة ليلة 14 فبراير 1976، فعقب عودته من الإذاعة وتسجيله لبعض الإبتهالات الدينية، سقط ميتًا، ليجدوا في جيبه تلك الورقة التي تنبأت بوفاته، كما أنه منذ عشرين عام قد تنبأ بوفاه والده، وبنفس الطريقة، حينما سقط المايكروفون فجأة من يده في أحد ليالي المدح عام 1955، صارخًا بكل الحرقة: آه يا ابوي، وفي الصباح يأتيه نبأ وفاه والده الشيخ محمد النقشبندي.

 

وبعد رحيلة بثلاثة سنوات كرمة الرئيس أنور السادات عام 1979، وذلك بمنحه وسام الدولة من الدرجة الأولى، كما كرمه الرئيس السابق محمد حسني مبارك في الاحتفال بليلة القدر عام 1989، بمنحه وسام الجمهورية من الدرجة الأولى، كما كرمتة محافظة الغربية التي عاش فيها ودفن بها، حيث أطلقت اسمه على أكبر شوارع طنطا، والممتد من ميدان المحطة حتي ميدان الساعة.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية