"أجيال الحروب".. من المعارك النظامية للمعارك غير المتماثلة

المعارك العسكرية تطورت خمس مرات في 370 سنة.. والجيل الأول استمر 250 سنة

الخبير "المُنَظِر" العسكري الأمريكي "كولونيل وليم إس. ليند"، وهو حاصل على درجة الماجستير في التاريخ، وعمل كمساعد للتشريع لعضو مجلس الشيوخ "روبرت تافت" الإبن عن ولاية أوهايو، وصاحب نظرية أجيال الحروب الأربعة الحقيقي، حيث حاضرنا "ليند" بالكلية الملكية للعلوم أثناء دراستي بجامعة كرانفيلد بإنجلترا عام 2004، وكان يرى أن أجيال الحروب تتغير مع إحداث ما أسماه "نقلة نوعية مؤكدة، أو ما يمكن أن نطلق علية "Delicately Qualitative Shift"، في طبيعة الحرب بغض النظر عن تكنولوجيا التسليح، حيث يرى الآتي:

أولاً: حرب الجيل الأول: هي حروب الحقبة من 1648 حتى 1860، أي أنها أجيال الحروب بدأت في التطور منذ ما يقرب من 370 سنة فقط، والتي كانت تُدار بين جيوش نظامية بتكتيكات "الخطوط والصفوف"، على أرض قتال محددة بين جيشين يمثلا دولتين في مواجهة مباشرة، العسكريين فيها مميزين عن المدنيين في كل الأمور، سواء في الزى أو التحية أو التدرج الدقيق في الوظائف والرتب، وبما يعزز ثقافة "النظام".

وتتسم القوات بحروب هذا الجيل بالطابع الصارم، والزى والسلوك العسكري الواضح، و"الطاعة" فيه مقدمة على "المبادأة"، وقد ظهر في الحرب الأهلية الأمريكية، وكذا الإنجليزية، والحرب الأنجلوميكسيكية، وخلال حملات نابليون العسكرية وحرب المكسيك.

إلا أنه ومع منتصف القرن التاسع عشر بدأت ساحة تلك المعارك في الانهيار، الجيوش الجماهيرية، فطبيعة القتال تغيرت مع تطور الأسلحة، حيث تأثرت المنظومة المنضبطة بساحة القتال، والتي تميز حروب الجيل الأول، فتطور سائل النيران وزيادة حجم تدميرها حول ساحة القتال لميدان من الفوضى يصعب فرض النظام في أنحائه، والذي جعل الاستمرار في القتال بالتشكيلات الخطية وتكتيكات الصفوف والخطوط أحد صور الانتحار.

ثانياً: حرب الجيل الثاني: عالجت مشكلة الجيل الأول، والتي وضعها الجيش الفرنسي خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وذلك من خلال القوة الشاملة للنيران معظمها من المدفعية غير المباشرة، ومن ضمنها مدفعية الدبابات، ولخصت فرنسا عقيدتها القتالية في هذا الجيل في أن "نيران المدفعية تقهر العدو.. والمشاة تحتل الأرض"، تنفذ من خلال خطط مُفصلة، يتم إستخدام النيران بشكل مركزي متزامن، يُسيطر عليه بعناية فائقة متزامنة مع قوة النيران التي يتم التحكم فيها مركزيا بعناية، وذلك باستخدام خطط وأوامر مفصلة، للمشاة والدبابات والمدفعية، في معركة القائد فيها هو مايسترو الأوركسترا.

وقد أعتبر الجنود بشكل عام والضباط بشكل خاص أن حرب الجيل الثاني قد جاءت كنجدة عظيمة لهم، لأنها حافظت على ثقافة "النظام" في ميدان القتال، حيث ركزت في الداخل على القواعد والضوابط والعمليات والإجراءات، فـ"الطاعة" في الجيل الثاني أيضاً مُقدمة على "المبادأة" لتجنب التعرض للخطر خاصة مع منظومة النيران المتزامنة، أما الانضباط فكان جبرياً يأتي "فرضاً" من أعلى إلى أسفل وليس "ذاتياً"، وفي هذا الجيل حلت نيران القوات الجوية محل نيران المدفعية لقوة تدميرها ومساحات تأثيرها.

ثالثاً: حرب الجيل الثالث: جاءت نتيجة لعيوب الحرب العالمية الثانية، وكان أول من انتهجها محدثاً هذا التطوير الجيش الألماني فيما أسموه بـ"حرب المناورة"، ويستند على السرعة والمفاجأة والتشتيت الذهني للعدو، وتشتيت قواته بحرمانه من السيطرة عليها أثناء القتال، ومن الناحية التكتيكية، تسعى القوات في الهجوم للوصول الي عمق العدو، والعمل على انهيار أنساقه التالية واحتياطياته، بهدف الالتفاف حول العدو لسرعة انهيار أنساقه، أما في الدفاع، فإن القوات المدافعة تسعى دائماً لحصار العدو ثم تجزئته، ولا مجال للمنافسة التقليدية على الخطوط المنتظمة في حروب الجيل الثالث، فهي حرب ليست خطية بالشكل الذي كانت تقاتل به القوات في حروب الجيل الأول.

"المبادأة" تُقدم فيها على "الطاعة" وهو عكس ما قبلها، حيث يمكن التسامح مع الأخطاء، طالما أنها نتيجة للمبادأة الإيجابية، في إطار الاعتماد على الانضباط "الذاتي"، وليس "فرض" الانضباط، وقد وضحت حروب الجيل الثالث في حروب الخليج وحرب أكتوبر وغيرها.

رابعاً: حروب الجيل الرابع: والتي أطلق مصطلحها "GW 4" لأول مرة عام 1989، عُرفت بالنزاع في منطقة غير واضحة المعالم بين دائرتي الحرب والعمل السياسي، ويشغل هذه المنطقة مقاتلون أو سياسيون، وتُعرف أيضاً بأنها عنصر العنف غير الحكومي "VNSA"، أو ما يمكن تسميته بـ"A Violent Non-State Actor"، والذي يحارب دولة أخرى بأسلحته الخاصة، وقد صيغت من خلال نفس المفهموم على أنها "الحرب اللا متماثلة – Asymmetric War" أي الصراع الذي يتميز بعدم تكافؤ التسلح ولامركزية الإجراءات، وقد طُور الجيل الرابع إلى "GW 4.6"، لتُستخدم فيه وسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والمعارضة السياسية والعمليات الأستخباراتية.

يتميز أسلوب الجيل الرابع من الحروب بالآتي:

قد يتميز بالعنف الجسدي كما في حالات الإرهاب، وقد يتميز أيضاً بقوة العنف الذهني كما فعل "غاندي" و"مارتن لوثر كينج"، فكانا يصران على تخفيض كافة مستويات العنف التي يقابلونها دون أدنى مستويات العنف الجسدي، ومن ثم قد يدار أيضاً بواسطة من مثلهم من المعارضين في دولهم، سواء ضد استعمار عسكري أو أيديولوجي أو فكري، كما تتميز بأنها تتضمن صراعات معقدة وطويلة الأجل، قد تعمل بتكتيكات الإرهاب، تستند على قاعدة غير وطنية، أو عبر الأوطان، فهي تدار بشكل شديد اللامركزية، تشن هجوماً مباشراً على ثقافة أيديولوجية العدو، كما تقوم أيضاً بأعمال إبادة جماعية ضد المدنيين.

عدم وجود التسلسل الهرمي بها أكثر ما يميز حروب الجيل الرابع، ربما لصغر حجمها، ولذا فهي تعتمد على أساليب التمرد وحروب العصابات، ويظهر فيها نوع من العمليات النفسية المتطورة للغاية، وخاصة من خلال التلاعب بوسائل الإعلام، فهي تستخدم جميع الضغوط المتاحة سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، وأفضل بيئة لها هي فترة ما يُعرف بـ"الصراعات خفيفة الحدة" والتي تنشب بين الجماعات المسلحة والجيش الحكومي، العنصر الأكثر تعقيداً في التعامل معه في تلك الحروب هم السياسيون غير المسلحون والذين ينتهجون أسلوب العنف الذهني.

يتميز من يقومون بحروب الجيل الرابع بالآتي:

  • عدم وجود سلطة عليهم أو تركيب تنظيمي هرمي مُقنن لهم.
  • المثابرة والصبر والمرونة والعمل بعيداً عن الأضواء عند الحاجة.
  • صغر حجم عناصرهم وقد يلجأوا لتكتيكات مسلحة أو أعمال إرهابية ضد البنية التحتية للدولة المُستهدفة، مستهدفين جميع الجبهات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والمدنية، ووسائل الإعلام.

الأهداف الإستراتيجية لمن يشنون الجيل الرابع من الحروب:

  • هزيمة الإرادة السياسية للدولة المستهدفة وفرض إرادة سياسية مخالفة عليها.
  • البقـــــاء.
  • إقناع صانعي القرار السياسي أن أهدافهم إما قابلة للتحقيق، أو أنها ستكون مكلفة للغاية، مقابل ما تتوقعه الدولة المُستهدفة حالة محاولة القضاء عليهم بالعنف.
  • تحول هوية وأيديولوجية الدولة من القومية إلى العقائدية أو العكس.

أفضل أسلوب لمحاربة من ينتهج أسلوب الجيل الرابع من الحروب هو:
العمل على تجزئة عناصره وتفتيتها وإفقادهم الثقة فيما التفوا حوله، والذي يحقق نجاحاً كبيراً حالة أن عناصره سواء مُسلحة أو سلمية تعمل من أجل مصالح خاصة وليس عقيدة راسخة، والحكومات الرشيدة فقط هي القادرة على التصدي لهم بهذا الأسلوب.

خامسا: حقيقة حروب الجيل الخامس: برغم حداثة فكرة أربعة أجيال من الحروب، فقد ظهر بعض المراقبون يتحدثون عن الجيل الخامس.. حيث يراه البعض أنه نتاج للتكنولوجيا الجديدة مثل تكنولوجيا "النانو".. كم أضاف أحد المراسلين العسكريين تعريفا له على أنه: "عمل إرهابي يقوم به مجموعة معينة تعبيراً عن رفضهم لإدانة وجهت لهم من قبل، جراء عمل آخر تم تحميلهم مسئوليته وقد يكونوا لم يتورطوا فيه"، وهو ما يعرف تقليديا باسم "العمليات الزائفة.

أما جنود البحرية الأمريكية "المارينز" فقد عرفوه على أنه "حرب تقوم على تجنيد كيانات مختلفة التبعية، مهمتها إشراك أتباعهم ومن حولهم من عامة الشعب، ليكونوا أحد وسائلهم وأهدافهم في نفس الوقت، حيث تديرها عناصر من المخابرات الخارجية وتقودها القوى المعارضة، معاونة أو من خلال، الجمعيات المدنية والأهلية، وآخر تلويح بشأنها كان من سنوات قليلة بواسطة الجيش الروسي والذي أطلقوا عليه "ألوان قوس قزح الثوري" والذي يحمل تقريباً نفس مفهوم "المارينز" الأمريكية.

والآن، هل نجد اختلافاً جوهرياً ليكون نظرية لتقديم جيل جديد من الحروب؟!، أذكر أثناء دراستي العلوم السياسية بالكلية للملكية للعلوم بجامعة كرانفيلد ببريطانيا عام 2004 ما رواه كولونيل "وليم إس. ليند" صاحب نظرية أجيال الحروب الأربعة ساخراً "وقد اعتاد تسجيل جمله الهامة في كتبه" حيث قال: "أحد أسباب ارتباك من يحاولون إيجاد جيلاً خامساً للحروب، قد يكون سوء فهم مصطلح "الجيل" كنظرية، حيث تُعني "نقلة نوعية تم تأكيدها وحسم الجدل فيها".

وأستكمل كولونيل "وليم إس. ليند": "ولقد اعتمدت كلمة "الجيل" لتبسيط تواصلي مع مشاة البحرية الأمريكية "المارينز"، فمن الصعب تقبل عقلياتهم للجُمل المُركبة"، بالضبط وكأن الإمبراطور جوزيف الثاني يستمع لسيمفونيات "موتزارت" الموسيقية لأول مرة، أسئلة وملاحظات لا تنتهي"، وهنا يطرح سؤالاً نفسه، ماذا قد يكون الهدف من طرح نظريات جديدة بشأن الحروب؟.

من ناحية أخرى، تحدث مارتن فان كريفيلد في كتابه "التكنولوجيا والحرب" والذي يُطلق عليه "المُحدد التكنولوجي"، حيث وضح أنه من الأفكار الخاطئة التي قد يتحدد بها نتائج الحرب، فكرة "التفوق التكنولوجي في الأسلحة والمعدات"، والتي نادراً ما تُعتبر العامل الحاسم لتوقع نتائج الحروب، بالضبط كما حدث من الإدارة الأمريكية، عندما أعلنت أنها قد حسمت نتائج الحروب من خلال ما أسموه "الثورة في الشئون العسكرية"، في حين أن الهدف من البروباجندا التي صاحبت هذا المصطلح كان مجرد تحقيق أكبر مبيعات ممكنة للسلاح الأمريكي وقتها، والتي أثبتت فشلاً أمام داعش وأخواتها اليوم، وهو ما يتكرر الآن مع محاولة تفعيل بروباجندا جديدة مع ما أطلق عليه "الجيل الخامس للحروب" بواسطة مروجيه.

وأخيراً علينا أن نطلع جيداً على ما صُدر بشأن "الجيل الخامس من الحروب"، وعلى إفتكاسات المحللين بشان الجيلين السادس والسابع كنظريات وهمية عن الحروب، سنتخيل إذا ما تعاملنا مع أي ظاهرة بعد الجيل الرابع على إنها نظرية جيل جديد من الحروب، وفكرنا في وضع تفاصيل لها تتضمن ما يميزه، وما يميز من ينفذونه، وأساليب تنفيذه، وأهدافه الإستراتيجية، وطبيعة أعماله، وأفضل الأساليب لمحاربة منتهجيه، هل سنجد اختلافا أيديولوجيا يمثل نقلة نوعية تم حسم الجدل فيها؟، في الغالب ستكون الإجابة بـ"لا"، لأننا سنضطر لتأليف ما ستكتبه وليس استنتاجه واستنباطه بشكل علمي منطقي مسلسل.

معني ذلك إننا لن نجد أي نظرية حقيقية لأجيال أخرىـ سواء خامس أو سادس أو سابع، موثقة علمياً وأكاديمياً بالجامعات المُعترف بها دولياً بذات الشأن وتُدرسه بالفعل من خلال منهج متكامل لدارسيها، ولا بالأكاديميات الإستراتيجية العسكرية بشكل منهجي، عدا أفواه المتحدثين بمنطقتنا العربية.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية