أنشأه إمبان من 115 عام

البارون: قصر لا يغيب عنه الشمس

تحفة معمارية أسطورية، لا تغيب الشمس عن حجراته، شيده أحد أهم المهندسين في العالم في ذلك الوقت، وهو البلجيكي البارون إدورارد امبان ، والذي قرر في نهاية القرن الثامن عشر، وتحديدًا منذ أكثر من ١١٥ عام مضت القدوم إلي مصر  إلى مصر بعد افتتاح قناة السويس، وذلك بعد أن استقر سنوات في الهند، لعشقه للأثار والحضارة المصرية.

 

كان البارون إمبان وأسرته قد حققوا الكثير من النجاحات في مجال عملهم في إنشاء المشاريع الكبري، علي الاخص مشاريع مد خطوط السكك الحديدية والترام أو المترو علي راسهم تطوير خط مترو باريس، وكذلك إنشاءات المدن، لذا حصل علي لقب بارون في عام 1907 من ملك بلجيكا ليوبولد الثاني لقاء دهوده في تمويل مستعمرات المملكة البلجيكية.

وفي يناير من العام ١٩٠٤ وصلت للبارون إمبان معلومات عن صعوبة استمرار شركته في أحد أهم مشروعاته في مصر، وهو مشروع نشاء خط سكة حديدية يربط بين المنصورة والمطرية على شاطئ بحيرة المنزلة بمحافظة بورسعيد، لذا قرر المجيء بنفسه إلي القاهرة لمحاوله انقاذه، ولكنه للأسف خسر المشروع لصالح إحدي الشركان البريطانية، ورغم ذلك قرر أن يبقي في مصر ولم يرحل منها.

 

أثارت الحضارة المصرية كعادتها عقل البارون إمبان، كما أدهشه أن تكون القاهرة بتلك الرُقي والنظاقة التي تفوق حتي عاصمة بلده بودابيست، لذا قرر أن يؤسس "شركه واحة هليوبوليس"، ثم عرض على الحكومة المصرية فكرة إنشاء مدينة جديدة في صحراء شرق القاهرة واختار لها اسم "هليوبوليس" علي اسم شركته، وتعني "مدينة الشمس"، وفي ١٩٠٦ قام البارون إمبان بشراء حوالي ٢٥ كيلو متر مربع في شمال غرب القاهرة، في منطقة مصر الجديدة الحالية، اي ما يعادل ٦١٧٧ فدانًا، ويؤكد المصادر إنه اشتري الفدان الواحد بجنيه مصري وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.

قبل أن ييفكر البارون في إنشاء مدينة مصر الجديدة سعي كثيرًا للتقرب من الأسرة الحاكمة في مصر، كما وثق علاقاته بكبار رجال الدولة المصرية ورجال الصناعة، وكان باغوص ابن نوبار باشا مدير السكة الحديدية المصريةأهم أصدقائه المقربين، لذا كان مقربًا من نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر في عصر الخديوي إسماعيل، ما أهله للحصول علي العديد من الإمتيازات، أهمها حصول شركته على امتياز شراء أكثر من ستة آلاف فدان من الأراضي الصحراوية إنشاء ضاحية مصر الجديدة، وإمتياز أخر بإنشاء خط مُكهرب للقطارات يصل بين القاهرة ومنطقة الضاحية الجديدة التي أرادها أن تكون مسكنًا لأبناء الطبقة الارستقراطية بعيدًا عن زحام القاهرة متأثرًا في ذلك بالمدن والحدائق الأوروبية.

 

كان البارون يحلم بمدينة ليس لها مثيل في العالم، فقد أرادها أن تكون قاهرة جديدة راقية، لذا قامت شركته بتخطيطها علي أحدث ما وصل إليه العلم منذ ١١٥ عامًا، ليخرج بمدينة مكتملة الملاافق والبنية التحتية، من هرباء ومياة وصرف صحي وفنادق مثل فندق هليوبوليس بالاس، بالإضافة إلى ملاعب الجولف ومضامير سباق الخيول والمنتجعات الراقية.، كما خصص منطقة للمساكن الراقية للإيجار مصممة على تصاميم معمارية مبتكرة، لا زال الكثير منها باقياً إلى الآن وتشكل تراثاً معمارياً فريدًا.

كان البارون إمبان يدرك أنه لتحقيق هذا الحلم يجب أن يُشرف بنفسه علي بناء مدينة هليوبوليس الجديدة، لذا كان أول ما فكر فيه بناء قصر ضخم ليكون مقرًا له، لذا اختار موقعًا في وسط المدينة الصحراوية لبناء قصره، وحرص في تصمصمه علي أن يكون قادر علي الدوران حول نفسه، ليتمكن من متابعة تنفيذ بناء المدينة الجديدة من شرفته من كل الجهات.

 

قصر البارون، هكذا احتفظ القصر الذي بُني منذ ما يقرب من 115 عام بإسمه، قام بتصميمه المعماري الفرنسي ألكسندر مارسيل، وهو عبارة عن خليط من فنون العمارة الهندية والأوروبية، لتظهر في عام 1911 تحفة معمارية فريدة من نوعها في العالم، على اعتبار أنه القصر الوحيد علي سطح الكرة الارضية الذي لا تغيب عنه الشمس طوال النهار، حيث شيدت قاعدته الخرسانية على رومان بيلي تدور على عجلات، ليلف القصر بمن فيه، ويرى الواقف في شرفته كل ما يدور حوله.

ويقع القصر علي مساحة 125 ألف متر، وتم بنائه علي طراز استلهمه مارسيل من معبد "أنكور وات" في كمبوديا، ومعابد "أوريسا" الهندوسية في جنوب شرق أسيا، فشرفات القصر الخارجية محمولة علي تماثيل الفيلة الهندية، كما ينتشر العاج في الداخل والخارج، في حين ترتفع وتنخفض النوافذ مع تماثيل هندية وبوذية، أما داخل القصر فكان عبارة عن متحف يضم تحف وتماثيل من الذهب والبلاتين، بخلاف تماثيل بوذا والتنين الأسطوري، كما يوجد داخل القصر ساعة أثرية قديمة لا مثيل لها إلا في قصر باكنجهام الملكي بلندن، توضح الوقت بالدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين، كما أنها توضح تغييرات أوجه القمر ودرجات الحرارة، أما الأرضيات فقد صُنعت من الرخام والمرمر الأصلي، والتي تم استيرادها من ايطاليا وبلجيكا، في حين يتصدر مدخل القصر تماثيل الفيلة.

 

ويتكون القصر من طابقين وبدروم يؤدي الي سرداب طويل، حرص اللورد امبان علي إخفائه لأكثر من 75 عامًا، ويصل الي كنيسة البازيليك التي تبعد عن القصر بمسافة تصل الي نحو 2.5 كيلوا متر، وقد دُفن اللورد امبان في قبو تلك الكنيسة بناء علي وصيته، كما يضم القصر برج كبير شيد علي الجانب الأيسر يتألف من أربعة طوابق يربطها سلم حلزوني تتحلي جوانبه الخشبية بالخام، وعلي درابزين السلالم نقوش من الصفائح البرونزية مزينة بتماثيل هندية دقيقة النحت.

يتكون الطابق الأول من ثلاثة قاعات، حيث توجد صالة الاستقبال الغنية بالزخارف وبها أعلى فتحات الأبواب المؤدية إلى القاعة، والتي يتواجد بها تمثال بوذا أعلى أعمدة رخامية، وجميع الحوائط مغطاة بالرخام الوردي، وفى الجزء الأخير من القاعة أبواب زينت بتماثيل لراقصات وألهة هندية، وعلى بداية السلم الرخامي الذي يؤدي إلى الطابق الثاني يوجد برواز خشبي فارغ ونافذة بدون زجاج بها حديد مزخرف تستخدم كفتحة للتهوية والإضاءة الطبيعية، في حين يحتوي الطابق الثاني على أربع غرف نوم ملحق بها حمامات ومصعد خشبي، لديها أسقف تمت زخرفتها برسومات وزخارف على شكل الملاك المُكلل، أما سطح القصر فتنتشر به المقاعد والمظلات الحجرية والكثير من التماثيل، بالإضافة إلي غرفة تغطيها قبة بها نقوش لمجموعة من الطيور.

 

وقد صمم القصر بطريقة تجعل الشمس لا تغيب عن حجراته وردهاته أبدًا، واستخدم في بنائه المرمر والرخام الإيطالي والزجاج البلجيكي البلوري، والذي يجعل من في الداخل يري كل من في الخارج، وبه برج يدور علي قاعدة متحركة دورة كاملة كل ساعة، ليتيح لمن يجلس به أن يشاهد ما حوله في جميع الاتجاهات، وكان الطابق الأخير من القصر هو المكان المفضل للبارون امبان ليتناول الشاي به وقت الغروب، حتي أن البعض كان يطلق علية كافيتيريا الحفلات الخاصة.

غابت الحياة عن القصر لسنوات طويلة، حتي اصبح أشبه ما يكون بقصر مهجور، ما سمح للكثير من القصص تنتشر حوله، وتناثرت بعض الروايات التي تقول أن توقف القصر عن الدوران جاء نتيجة سقوط أخت البارون من شرفة القصر، بل أن بعض جيران القصر يؤكدون انهم يسمعون أصواتًا صاخبة وحركة داخل القصر، وأنهم يرون بعض الحرائق تشتعل داخله قبل أن تنطفئ فجأة دون تدخل من أحد، ومؤخرًا قامت الحكومة المصرية بإعادى احياء وترميم القصر، ورصدت لذلك حوالي 100 مليون جنية، ليستعيد القصر الكثير من رونقه القديم كتحفة أثرية معمارية فريدة من نوعها.

المصادر:

  • د. وسام حسين قرني، دراسة للتصميم الداخلي والأثاث في قصر البارون إمبان كعمارة فريدة، دراسة تاريخية وتحليلية، جامعة حلوان 2008.
  • عباس الطرابيلى، خطط الطرابيلي -احياء القاهرة المحروسة، الدار المصرية اللبنانية، ٢٠٠٣.
  • تطور الفراغات العمرانية في مصر الجديدة، النواة الأولى- واحة هليوبوليس، د. عمر الحسيني عبدالسلام، د. محمد تامر الخرازاتي، جامعة عين شمس، 1997.
  • مشروع ترميم وإعادة توظيف قصر البارون إمبان، وزارة السياحة والآثار المصرية، http://www.antiquities.gov.eg/DefaultAr/Projects/Pages/Projectes.aspx?ProjectType=8
  • حمدي أبو جليل، القاهرة شوارع وحكايات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولي 2008.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية