اشتق الإنجليز كلمة مرتب Salary من ملح Salt باللاتينية

"الملح الإلهي".. سر المصريين في علوم التحنيط وكنز الرومان الأغلي من الذهب

"لا يستحق ملحه"... قول إنجليزي مأثور، يصف به من لا قيمة له، فرغم أن تاريخ الملح من تاريخ العالم، لأنه وجد على الأرض منذ أن وجد الماء والصخور، حتى إننا عندما نتذوقه نشعر كأننا نتذوق تاريخ الإنسان، فهو جزء أساسي من الأرض غير قابل للتلاشي، وقادر على شرح من كنا ومن نحن ومن سنكون، رغم أن الإنسان عرفه حديثا بعض الشيء.

 

قديمًا اكتشف الإنسان الملح، أدرك أهميته الكبيرة للصحة ولحفظ الأشياء، بداية من الطعام المجفف وحتى جثة الإنسان نفسه، يومها استوعب انه كنز من كنوز الأرض الثمينة، فأضحت سلعة ثمينة ونادرة ولا غنى عنها، فتعامل معه على أنه أغلى الكنوز وساواه بقيمة الذهب، استخدمه الرومان كعملة، جعلوه جزءًا من راتب الجنود، حتى تطور الأمر واشتقت كلمة مرتب بالإنجليزية Salary من كلمة ملح Salt باللاتينية، كما استعملت في الصين والحبشة أيضا كعملة عن طريق المقايضة.

مهد الثورة الفرنسية

 

أما ضريبة "الجابل" التي استحدثتها فرنسا، وهي ضريبة فرضت على الملح، كانت أول ما ربط الملح بالحروب، لأنها أثارت الناس وكانت أحد أسباب الثورة الفرنسية، فرغم أن تلك الضريبة التي فرضها الملك فيليب الرابع كضريبة مؤقتة في القرن الثالث عشر كانت تفرض على جميع طوائف الشعب، إلا إنها كانت تطبق على الفقراء الذين يقتاتون الملح مع الخبز، ويعفى منها الأغنياء، وفي القرن الرابع عشر جعلها الملك تشارلز الخامس ضريبة دائمة، وكلما خلت خزائن الدولة من الأموال زادت قسمة الضريبة المفروضة على الملح.

 

وفي عام 1760 اعتبرها الملك لويس السادس عشر مصدرًا أساسيًا للخزينة القومية، فتوسع فيها أكثر واستخدم الغلظة في جمعها، ونتيجة للفقر وزيادة سخط الشعب تجاه جباة الضرائب، خرج الشعب الفرنسي عليهم في مارس 1789 بالذبح، وكانت المذبحة الأولى التي خرجت على أثرها الثورة الفرنسية.

الملح الإلهي والفراعنة

 

الحقيقة أن الملح كان أكبر امتياز فوجئ به الفراعنة المصريون، لأنه ساعدهم في عمليات التحنيط، فعندما اكتشف المصريون نوعا من الملح في قاع نهر جاف في منطقة "ناترون"، أطلقوا عليه "الملح الإلهي".

 

في العقيدة المصرية القديمة، كانت الجثة سفينة إلى الآخرة، وكانوا بحاجة إلى الحفاظ عليها بشكل جيد حتى يتمكنوا من البعث لحياة ما بعد الموت، وكانوا يضعون بجوار الجثة بعض الأطعمة لرحلة ما بعد الموت، منها الأسماك واللحوم والخضار والفواكه، ولأن رحلة ما بعد الموت طويلة فكان على هذه الأطعمة أن تفسد سريعا، ولكن الملح وحده جعل الحفاظ عليها أمرًا ممكنًا، ولهذا فهم المصريون قيمته الغالية.

كانت الحضارة الفرعونية القديمة هي الحضارة الأولي التي استطاعت الحفاظ على الأسماك واللحوم بالملح، خاصة وأن التبريد الذي نعرفه حديثًا لم يكن معروفا وقتها، لذلك استخدمه المصريون القدماء في معالجة وتجفيف كل الأطعمة، ومن هنا استطاع المصريون أن يتحولوا إلى التجارة، فكانوا ينقلون الطعام المملح بسهولة دون أن يفسد، وكانوا يضيفون عليه قيمة مضافة لكل رطل.

 

الملح في الأديان

 

الكثير من الأديان والثقافات منحت الملح مكانة عالية، وتتصدر طقوسهم المختلفة، فكان المصريون القدماء والإغريق الرومان يتقربون إلى آلهتهم بتقريب الملح من الماء، ويعتقد بعض المؤرخين أن تلك الطقوس كانت منشأ وأصل الماء المقدس في المعتقد المسيحي، وفي الديانة الفيدية وفي بعض طقوس الحيثيين الساميين والإغريق، كان الرهبان يقومون برمي الملح على النار لإصدار بعض الفرقعات عند حلول الأشهر القمرية.

 

كما يعتقد معتنقي الديانة الأزتيكية أن آلهة الإخصاب تستجيب عند تقريب الماء والملح، لذلك أطلقوا عليها آلهة الملح، أما الهندوس فيعتبرون الملح جالبًا للحظ السعيد، لذلك يستخدمونه في طقوس الزفاف، في حين يقدم معتنقي الجاينية الأرز غير المطبوخ مع قليل من الملح للآلهة، وينثرون الملح على بقايا جثة الميت بعد حرقها قبل دفن رماده، ويري معتنقي الديانة الماهايانية أن الملح طارد للأرواح الشريرة، لذلك ينثرون قليلا منه على كتفهم الأيسر بعد عودتهم من المقابر، كما يضعون أطباقًا من الملح عند مداخل المؤسسات لطرد الأشباح وجلب الممولين.

وقد جاء الملح أيضا في الأديان السماوية، ففي التوراة ذُكر 35 مرة، فقد ذكر أن امرأة لوط عليه السلام عندما التفتت إلى قريتها تحولت إلى عمود من الملح، كما ذكر أن القاضي أبو معيلق عندما دمر مدينة شكيم قام برش الملح كلعنة على من يسكن هذه الأرض مرة أخرى، وفي كتب العهد الجديد، ذُكر الملح 6 مرات، ويُذكر أن المسيح أشار لأتباعه بأنهم ملح الأرض، ويضاف للماء ويستخدم في طقوس ترسيم الكهنة.

 

أما في القرآن الكريم، فذكر الملح مرتين، مرة في سورة الفرقان في قوله تعالي .."وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا"، وفي سورة فاطر في قوله تعالي .. "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية