شهد أول عملية ترميم منذ 1400 عام

أبو الهول: حارس مملكتي الأحياء والأموات

في يونيو من العام 1940 ميلادية، وفي أثناء إحدي نوبات غيابه عن الوعي، تلك النوبات التي جعلت البعض يصفه بأنه وسيط روحاني يتلقي بعض الاشارات الغيبية، أعلن العراف والمستبصر الأمريكي إدجار كايس "Edgar Cayce"، أن قارة أطلانطس المفقودة حقيقية، وان أهلها قاموا بتسجيل كل حياتهم وأسباب ضياعهم في كارثة عالمية، وأنهم قاموا بحفظ تلك السجلات ودفنها بواسطة اخر الناجين تحت اقدام تمثال ابو الهول.

 

كان هذا منذ ثمانية عقود مضت، وحتي اليوم، وعلي الرغم من اكتشاف رموز اللغة الهيروغليفية، والتي ساعدتنا كثيرًا في فك أسرار الحضارة المصرية، إلا أننا مازلنا نجهل حقيقة تمثال أبو الهول، من الذي قام بنحته بهذا الشكل؟، وما الهدف من ذلك؟، ومن صاحب أمر بنائه؟ ومتي تم ذلك؟، ورغم ذلك حصل علي العديد من الأسماء والألقاب الخاصة به، فقد كان أحد الأرباب المصرية الحامية، وفي عصر الدولة الحديثة، أطلق المصريون علية اسم "حور إم أخت"، والتي تعني حورس في الأفق، وهو ما يعني أنه كان وصفًا أكثر منه أسم، فقد تم وصفه كحارس يقف بين مملكتي الأحياء في الشرق والأموات في الغرب.

من المستحيل تحديد الاسم الذي أطلقه المبدعون على تمثالهم، حيث لا يظهر في التمثال أي نقش معروف للمملكة القديمة ولا توجد نقوش في أي مكان تصف بنائه أو حتي الغرض الأصلي منه، ولكن وفي الدولة القديمة، أطلق المصريون القدماء علي أبو الهول منذ أكثر من ٤٥٠٠ عام اسم "روتي"، وهو رمز مقدس يأتي في صورة أسد، ووظيفته هي الحماية والحراسة، لذا يظهر أبو الهول الذي يمثل الرب حورس بين هرمي خوفو وخفرع، أو بين الأفقين، ما جعله نموذجًا للحماية، فالتمثال يمثل أسدًا بوجه إنسان رابضًا ذو هيئة محارب في مدخل الأهرامات من شرقها ليواجه وجهه نحو النيل رمز الحياة في الشرق، كما حصل علي العديد من الاسماء الأخري، ففي العصور المتأخرة حمل اسم "حور ما خيس"، فقد كان يُعتقد أن أبو الهول هو رمز الشمس أو رع الذي يشرق ويغرب بين الهرمين، وفي عهد الدولة الوسطى تم تسميته "شسب عنخ"، وتعني الصورة الحية.

 

"رغم مرور 4500 عام علي بنائه مازلنا نجهل صاحبه حتي اليوم.. وبعض المؤرخين ينسبونه للملك خفرع"

 

أما عن اسم أبو الهول أو "sphinx"، فقد اطلقه اليونانيين تيمنًا بالأسطورة الإغريقية، والتي خرج من خلالها تمثال سفنكس، وهو يمثل وحش أنثى بوجه امرأة وجسم حيوان وصدر وأقدام أسد وجناحي نسر وذيل ثعبان، وإن كان المؤرخين يرون أن اسمه باللغة العربية "أبو الهول" جاء كتحريف من اللقب الفرعوني "بر حول" أو "بو حول"، بمعنى مكان أو بيت أو ملاذ حورس الصقر رمز الملكية في مصر القديمة، وقد تم تحوير الكلمة مع دخول العرب إلى مصر بإضافة "الألف" قبل "بو»"، وتحويل حرف "الحاء" إلى "هاء"، ولذلك سُمي أبو الهول.

رغم مرور ما يقرب من 4500 عام علي بناء أبو الهول، مازلنا نجهل صاحب أمر بنائه حتي اليوم، وفي عام ١٩٤٩ قدم العالم الأثري الكبير عميد الأثريين المصريين الدكتور سليم حسن رؤية قد تبدو حسمًا لتلك الإشكالية، فعقب حفرياته في حظيرة أبو الهول، كتب قائلًا: "مع أخذ كل الأشياء بعين الاعتبار، يبدو أننا يجب أن نعطي الفضل في إقامة أروع تمثال في العالم للملك خفرع، ولكن مع بعض التحفظ، فحتي الأن لا يوجد أي نقش يربط أبو الهول بخفرع، ولكننا يجب أن نتعامل مع الأدلة على أنها ظرفية، إلى أن يحين الوقت الذي نكتشف فيه عكس ذلك".

 

وفقًا لرؤية سليم حسن فأن تلك الأدلة الظرفية تتمثل في معبد الوادي الخاص به، والذي يرتبط تقليديًا بالملك خفرع، وكانت تقام فيه الطقوس الدينية كما تقدم فيه القرابين، ويُعتقد أنه بُني بعد بناء تمثال أبو الهول بفترة زمنية، وقد بُني هذا المعبد بجوار أبو الهول ومتصلا بطريق مرصوف للمواكب المتجهة إلي هرمه، ويقع معبد أبو الهول الى الشمال من معبد الوادي للملك خفرع، ويدل الازدواج الموجود في تكوين المعبد علي إحكام حكم مصر بجميع أقطارها، فنجد فيه ممرين، مجموعتين من الغرف، بالإضافة إلي مدخلين، وكان قد تم بناء معبد أبو الهول باستخدام كتل مقطوعة من حظيرة أبو الهول، في حين تم اقتلاع كتل معبد الوادي من الهضبة، وكان بعضها يصل وزنه إلى 100 طن.

 

"تحتمس الرابع أول من إهتم بدراساته وترميمه.. قام بازالة الرمال ليضع "لوحة الحلم" ويؤكد شرعية الحكم"

 

طيلة عقود وقرون بل وآلاف السنين، كان تمثال أبو الهول مُلهمًا للكثير من الفنانين، فكانت هيئته فكره للكثير منهم للخروج بنموذج يحاكيه، ولكن في أحجام أصغر كثيرًا عنه، ففي الأقصر وضعت تماثيل أبو الحول علي جانبي طريق يصل بين معبدي الكرنك والاقصر مرورا بمعبد موت، وذلك بطول ٢٧٠٠ متر، وذلك خلال عصر الأسرة الثامنة عشرة، ثم قام الملك نختنبو الأول من ملوك الأسرة الثلاثين بتشييد الجزء المتبقي منه، وفي بعض الأحيان تمت صناعة تماثيل أبو الهول لتمجيد الملوك والملكات، كما فعلت الملكة حتشبسوت، والتي أمرت بنحت تمثال لها من الجيرانيت الأحمر، يحمل شكل أبو الهول برأسها، وهو اليوم يزين متحف الميتروبوليتان بالولايات المتحدة الأمريكية.

أما عن تمثال أبو الهول الضخم، فيقع علي هضبة الجيزة على الضفة الغربية من النيل، يصل طوله إلي حوالي 73,5 مترًا من المخلب إلي الذيل، بينهما طول القدمين الذان يصلا إلي 15 مترًا، وعرضة إلي أكثر من 19 مترًا، في حين يصل إرتفاعه إلي 20 مترًا، وقد تم نحته من نوع واحد من الصخر علي ثلاثة طبقات، ويظهر في جسم أسد قوي غير مكبل بالأجنحة، وله رأس إنسان ولحية كلحية أوزيريس، وبين مخلبيه توجد لوحه الحلم التي تعود الى الملك تحتمس الرابع، ويري الباحثين أنه أقدم تمثال أثري معروف في مصر ، بل ويُعتقد عمومًا أنه تم تصميمه ونحته وبناؤه بواسطة قدماء المصريين في المملكة القديمة في عهد الملك خفرع، أي قبل في الفترة من ٢٥٥٨ حتي ٢٥٣٢ قبل الميلاد.

 

تعددت أسماء أبو الهول علي مر العصور.. المصريون أطلقوا علية اسم "حور إم أخت" وتعني حورس في الأفق

 

الكثير من المؤرخين تحدثوا عن أبو الهول في موسوعاتهم، فقد ذكر المؤرخ العربي عبد اللطيف بن يوسف البغدادي أن جسد أبو الهول كان مدفون تحت الرمل، فقد قال: وعند احد الأهرامات راس بارز يسميه الناس أبو الهول، ويزعمون أن جثته مدفونه تحت الأرض، وفي وجه حمره ودهان، في حيت تحدث المؤرخ تقي الدين المقريزي عن الأسباب التي أدت إلي كسر أنف أبو الهول، فقد قال أن المتصوف «صائم الدهر» الذي كان يعيش بجواره، وكان الناس ينظرون إليه نظرة تقديس في ذلك الوقت‏، فقام بتهشيم وجهة، ويبدو أنه شرع في العمل ولم يستطع استكماله، وأن السبب في ذلك يعود إلي عاصفة ترابية.

في وقت غير معروف، تم تجاهل مقبرة الجيزة، هذا التجاهل أدي إلي دفن أبو الهول تحت الرمال المنجرفة حتي وصلت إلي أكتافه، وقد كانت أول محاولة  موثقة في الحفريات اترميمه واستعادة رونقه تم تسجيلها في عام ١٤٠٠ قبل الميلاد، وذلك عندما جمع الملك الشاب تحتمس الرابع، في نهائيات القرب الرابع عشر قبل الميلاد، فريقًا لحفر وإزالة الرمال عن عن ذراعية لوضع لوحًا جرانيتيًا أطلق عليها "لوحة الحلم"، كُتب عليها الأتي:

 

وصل الابن الملكي، تحتمس، وهو يسير في منتصف النهار ويجلس تحت ظل هذا الإله العظيم ، غلبه النوم، وفي نفس اللحظة التي كان فيها رع في قمة السماء، ووجد أن جلالة هذا الإله العظيم تحدث إليه بفمه، كما يتحدث الأب لابنه قائلاً: انظر إلي ، تأملني يا ابني تحتموس، أنا والدك، وسوف أعطيك عرش البلاد والعباد ولكن تذكر، فحالي هذا كحال من أصابه المرض، وقد "تآكلت كل أطرافي"، وأصبحت الرمال التي أنا واقف عليها الآن تهددني، من أجلي لابد أن تقوم بعمل ما يتمناه قلبي فأنا في انتظار طويل، وبعد ما يقرب من قرنين أجرى الملك رمسيس الثاني بعض الترميمات خلال اعوام 1279 -1213 قبل الميلاد.

ما فعله تحتمس الرابع ورمسيس الثاني منذ أكثر من 3400 عام مضت فتح الباب أمام الكثير من المرممين لدراسة وترميم أبو الهول، فطبقًا لعالم المصريات الأمريكي مارك لينر جاءت أهم تلك العمليات في العصر الحديث، في عام 1817 ميلادية، عندما بدأ كشف عالم المصريات الإيطالي جيوفاني باتيستا كافيجليا عن صدر أبو الهول بالكامل، وفي عام ١٨٨٧ قام عالم المصريات الفرنسي يوجين جريبو رئيس المجلس الأعلي للاثار خلال الفترة من ١٨٨٦ حتي ١٨٩٢، بتكثيف عملية الترميم وإزالة الرمال عن أبو الهول، حتي ظهر كل من الصندوق والكفوف والمذبح والهضبة، كما تمكن من الحصول علي القياسات الدقيقة له، وفي عام 1925 أبدي المهندس الفرنسي أيميل برايز إهتمامًا بالتجوية الحاصلة فى جسم تمثال أبو الهول، وكان للعلماء المصريين دورًا في ترميم أبو الهول، ففي عام 1931 قام مهندسو الحكومة المصرية بإصلاح رأس تمثال أبو الهول، فقد سقط جزء من غطاء رأسه في عام 1926، وذلك بسبب التعرية، والتي أدت أيضًا إلى شق عميق في رقبته.

 

طبقًا للدراسات الجيولوجية، نُحت أبو الهول من الصخر الأصلي من تكوينات المقطم التي نتجت عن تراجع البحر الإيوسيني منذ أكثر من 500 مليون سنة في جنوب شرق الهضبة، حيث تكونت بحيرة ضحلة وجد بها الشعاب المرجانية، وبمرور السنين تحجر الطين والكربون فتكونت طبقات من الحجر الجيري التي تم بها بناء الأهرامات، أما أبو الهول فيتكون من تكوينات المقطم التي تنقسم الي، الطبقة الأدني، والتي تتكون من بقايا الشعاب المرجانية وترتفع الي 12 قدم في الجزء الأخير من أبو الهول وفقط من 2-3 أقدام فقط في قدميه الأماميتين، أما الطبقة الوسطي، والتي تشكل معظم جسمه وهي سبعة من الطبقات المتتابعة من الصخور اللينة و الصلبة.

الجزء الأعلي من جسم أبو الهول، والذي يشكل الأجزاء العليا من جسمه، وتحديدًا الرقبة، أما الرأس فتختلف كثيرًا عن الرقبة، فتكوينها تم صناعته من الحجر الجيري الصلب، وهذا ما يفسر تأكل الرقبة بشكل أكبر من الرأس، أما الطبقة الأدني من التمثال، وهي الأكثر ليونة لأنها مكونة من الشعاب المرجانية، فعند تحديد عمر أبوالهول فهناك نظرية تشير إلي أن بنائه تم من نفس نوع الصخر لمقبرة "دبحن" 2472-2490 قبل الميلاد، ولكن مقبرة "دبحن" تظهر شكل تجوية مختلف عن ما يظهر علي أبو الهول، لهذا فالنظرية تقر أما أن أبو الهول أكبر سنًا، أو أنه تعرض لفعل المياة الجوفية بشكل أكبر أدي إلي اختلاف درجة التجوي.

المراجع:

  • د. سليم حسن، أبو الهول.. تاريخة في ضوء الاكتشافات الحديثة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة ١٩٩٩.
  • موقع وزارة الأثار المصرية، https://egymonuments.gov.eg/ar/monuments/the-great-sphinx/
  1. Y. Kawae, and H. Kamei,2011, Geomorphological Aspects at the Giza Plateau in Egypt during the Age of Pyramid Building, (Chigaku Zasshi), Journal of Geography, Japan, The 100s: Significant Exposures of the World, No. 1.
  2. Lehner, M., Giza plateau mapping project, University of Chicago, United states of America.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية