منذ أكثر من ألفي وثلثمائه عام مضت، شرع الصينيون في بناء سورهم العظيم، بهدف حماية البلاد

هنا باب زويلة.. مشنقة طومان باى ورسل هولاكو.. و«متولي» تحصيل الضرايب (1)

منذ أكثر من ألفي وثلثمائه عام مضت، شرع الصينيون في بناء سورهم العظيم، بهدف حماية البلاد من أي هجوم عسكري مُحتمل، وصد الغارات الهمجية لبربر الشمال، ولم تنفرد الصين وحدها بهذا المنهج في حماية أراضيها في بناء الأسوار، وإن كانت تنفرد حتى اليوم بمدى الطول الذي بلغه هذا السور العظيم.

 

وفي مصر، ومنذ أكثر من ألف عام مضت، كانت للفاطميين نفس الرؤية، مع اختلاف الفكر الدفاعي عن الأراضي المصرية، بل كل أراضي العرب والإسلام، فشرع القائد الفاطمي «جوهر الصقلي»، ومن بعده أمير الجيوش «بدر الدين الجمالي»، في بناء أسوار القاهرة الفاطمية، ثم جاء من بعدهم الدولة الأيوبية، التي ورثت التصدي الدفاعي عن الأمة الإسلامية من هجمات الصليبيين والمغول، وكان الهدف من بناء تلك الأسوار أن تكون القاهرة قلاعا حصينة يحتمي بها السكان.

 

وظلت تلك الأبواب تحمى القاهرة على مر العصور، حتى إن حكام مصر طيلة أكثر من 8 قرون عكفوا على زيادة أطوالها في عصور لاحقة على العصر الفاطمي، وللأهمية التاريخية لتلك الأبواب، دائما ما تحظى بالترميم للحفاظ عليها، باعتبارها نموذجا فريدا للتحصينات الحربية في الإسلام، وقد بلغت أعمال البناء فيها درجة من الكمال لم تصل إليها ثانية في مصر، ما جعلها تُثير إعجاب رحالة القرن الثامن عشر الأوروبيين الذين سجلوا إعجابهم بها في كتب رحلاتهم.

بداية القصة

 

في البدء كانت القاهرة مجرد حصن، وسيرتُها الأولى ليست سوى قصة قلعة هائلة، أقام فيها الخليفة الفاطمي مع حاشيته وجنودِه المغاربة، بمعزِلٍ ومنأًى عن بقية أهل مصر، وتبدأ قصة الحصن الملَكي الذي كان في الفسطاط، العاصمة الإسلامية الأولى، بنجاح القائد الفاطمي "جوهر الصقلي" في القضاء على آخر فُلول الإخشيديين في مصر، ورضوخ البلاد له بعد خطاب الأمان الذي أصدره، ليطمئِن الناس.

 

عندما جاء "الصقلي" يقود قوات الخليفة المعز لدين الله الفاطمي من القيروان لدخول مصر، كان في مقدمة ما عنى به إنشاء مدينة القاهرة، وليس بعجب أن يكون أول شئ يبدأ به هو بناء سور من الطوب اللبن يضم ثمانية أبواب، هي "زويلة" وباب "الفرج" في الجنوب، وبابا "الفتوح" و"النصر" في الشمال، وباب "القراطين"، والذي عرف فيما بعد بباب "المحروق"، و"البرقية" في الشرق، وباب "سعادة"، ثم باب "القنطرة" في الغرب.

 

وفي عام 1087 قام أمير الجيوش بدر الجمالي بتجديد هذا السور، من الأحجار الضخمة، ولم تبق منه إلا بقية ضئيلة موجودة في شارع الجيش، وتضم ثلاثة أبواب وهي، باب الفتح وباب زويلة وباب النصر، والتي قام ببنائها ثلاثة إخوة وفدوا إلى مصر من أرمينيا فقام كل واحد ببناء باب من الأبواب الثلاثة بأمر بدر الجمالي.

 

"حلمت ببناء معقل حصين أسميته القاهرة".. كان هذا الرد المنطقي للأسباب التي دعت جوهر الصقلي لبناء أسوار القاهرة وأبوابها، كان يسعى لرد هجمات قرامطة البحرين عن الفسطاط ليقاتلهم مِن دونها، لذا أحاط بها بسور من الطوب اللبِن، وجعل بداخل هذا السور معسكراتِ قواته، وقصرَ الخليفة، والمسجد الجامع أو "الأَزهر"، والذي بدأ بناءه سنة 359هجرية، ليكون خاصا بشعائر المذهب العبيدي الفاطمي، خشية إثارة المصريين إذا ظهرت هذه الشعائر في مساجدهم، وقد تم حفر خندق عميق من الجهة الشمالية، ليمنع اقتحام جيش القرامطة للحصن، ولمصر مِن ورائه، وكانت المياهُ تَجري إليه مِن خليج أمير المؤمنين، ليصبح عائقاً مزدوجاً يصعب على المهاجمين تجاوزه للوصول إلى أسوار المدينة، والتي كانت سميكة إلى حد أن تستوعب مرور فارسين بخيولهما وهما يسيران جنبا إلى جنب.

 

أبواب القاهرة

 

تُعد الأبواب التي ظهرت في أسوار القاهرة خلال العصور الثلاثة التي نشأت فيها من روائع العمارة الحربية في الحضارة الإسلامية؛ لِما تميز به مِن شموخ وروعة وجمال في الفن المعماري والتصميم.

 

وكان للقاهرة من جهتها الجنوبية بابان متلاصقان، يقال لهما: باب زويلة، ومن جهتها الشمالية بابان متباعدان، أحدهما باب الفتوح، والآخر باب النصر، ومن جهتها الشرقية ثلاثة أبواب متفرقة، أحداها يعرف الآن بباب البرقية، والآخر بالباب الجديد، والثالث بالباب المحروق، ومن جهتها الغربية أربعة أبواب أخري، وهما باب القنطرة، وباب الفرج، وباب سعادة، وباب آخر يعرف بباب الخوخة، وفيما يلي عرض لأهم الابواب:

باب زويلة

 

تقع تلك البوابة إلى الجنوب مِن حصن القاهرة الفاطمي، وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة من البربر بشمال أفريقيا، انضم جنودها إلى جيش جوهر الصقلي لفتح مصر، وباب زويلة هو الباب الثالث الذي لا يزال يقاوم عوامل الزمن والإهمال بعد بابي النصر والفتوح، ويعتبر هذا الباب أجمل الأبواب الثلاثة وأروعها، وله برجان مقوسان عند القاعدة، وهما أشبه ببرجي باب الفتوح، ولكنهما أكثر استدارة.

 

يذْكر المقريزي والقلقشندي أن تلك البوابة القديمة التي أنشأها جوهر الصقلي كانت قائمةً حتى عصرهما، بالقرب من مسجد سام بن نوح، وأن البوابة الأولى كانت بفتحتين متجاورتين، وانه عندما جاء المعِز لدين الله إلى القاهرة بعد أن أسسها "جوهر الصقلي"، دَخل مِن الفتحة اليُمنى، فتَفاءل الناس بها، وتُرِكت اليسرى لخروج الجنازات.

 

يشغل باب زويلة مساحة مربعة، طول كل ضلع من أضلاعها 25 مترا، وممر مسقوف كله بقبة، وقد اختفت منه معظم العناصر الزخرفية، وعندما بنى الملك المؤيد أبو النصر شيخ مسجده عام 818 هجرية، اختار مهندس الجامع برجي باب زويلة وأقام عليهما مئذنتي الجامع، ويذكر القلقشندي والمقريزي الكثير من أبيات الشعر عنه كان قد كتبها على بن محمد النيلي تتحدث عن عظمة هذا الباب، ومنها قوله: "يا صاح لو أبصرت باب زويلة.. لعلمت قدر محله بنيانا، لو أن فرعونا رآه لم يرد *** صرحا ولا أوصى به هامانا".

 

عُرف باب زويلة بين الشعب المصري باسم "بوابة المتولي"، حيث كان يجلس في مدخله "متولي" تحصيل ضريبة الدخول إلى القاهرة، وهذه البوابة لها شهرتها في التاريخ المملوكي والعثماني، ويشتهر هذا الباب أو البوابة بكونه الذي تم تعليق رؤوس رسل هولاكو قائد التتار عليه حينما أتوا مهددين للمصريين، وأعدم عليه أيضاً السلطان طومان باي عندما فتح سليم الأول مصر وضمها للدولة العثمانية، كما شُنِق عليها الكثيرُ مِن الأمراء وكبار رجال الدولة، ولم يتوقف استخدامُها لتعليق رؤوس المشنوقين عليها إلا في عصر الخديوي إسماعيل.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية