"كوش".. أرض "الفراعنه السود" الذين حكموا وادي النيل أربعة قرون

"قوى عظمي، فرضت نفوذها وسيطرتها بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد".. هكذا وصفتها منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، فقد اعتبرتها أعظم الحضارات الأفريقية القديمة، حتى إنها ضمت عاصمتها الأثرية ضمن قائمة التراث العالمي عام 2011 ميلادية، امتدت حدودها من جنوب أسوان حتى الشلال السادس شمال الخرطوم.

 

"مملكة كوش".. وصفها عالم المصريات البريطاني "وولتر إمري" في كتابه مصر وبلاد النوبة بأنها ساحة قتال العالم القديم، وأهم مناطق القارة الأفريقية، سطر التاريخ على أرضها أحداث تاريخية كان لها أثر كبير في تطور الحضارة، فمنطقة النوبة تعد أهم مناطق الصراع في العالم القديم، وتنقسم بين النوبة السفلي التي كانت تُعرف بـ"واوات" وتقع داخل الحدود المصرية بين الشلال الأول والثاني، والنوبة العليا وهي "كوش" والتي تمتد من جنوب الشلال الثاني وحتى "الدبة" داخل الأراضي السودانية.

 

كانت النوبة العليا قديمًا موطنا لثلاثة ممالك حكمت في العصور القديمة، مملكة "كرمة"، والتي امتدت فترة حكمها من القرن الـ24 وحتي القرن الـ15 قبل الميلاد، ومملكة "نبتة" التي ساد حكمها من القرن العاشر وحتى القرن الثالث قبل الميلاد، ومملكة مروي التي استمرت من القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي.

وتعتبر النقوش المدونة على لوح الملك "سنوسرت الأول"، ثاني ملوك الفراعنة من الأسرة الـ12، أقدم أثر يذكر أسم تلك المملكة، فقد صورت الفرعون وهو يقدم عشرة من الأسرى المقيدين إلى الإله "منتو" إله الحرب في الديانة المصرية القديمة، والذي صور على شكل صقر، كانت تلك الأسرى تمثل مدن ومناطق بلاد النوبة، فتحت كل أسير نقش أسم المدينة أو المنطقة النوبية التي ينتمي إليها، على رأسهم أسم كاش، وهي مملكة كوش.

 

تزامنت قوة وازدهار مملكة كوش مع بداية ضعف مصر الفرعونية في عصور الدولة الوسطي، التي امتدت من أواخر القرن الثاني والعشرين حتى أوائل القرن السابع عشر، فبدأت بالزحف تجاه الشمال، هذا الأمر جعل الملك سنوسرت الثالث، الذي لقبه الإغريق بـ"سيزوستريس الثالث"، وهو خامس فراعنة الأسرة الثانية عشر في منتصف القرن الـ19، يقوم بتوجيه 37 حملة إليها، وقام باخضاعها عسكريا، ثم أقام 17 قلعة وحصنا بين الشلالين الأول والثاني، 14 حصنا في النوبة السفلى منهم حصني سمنة وقمنة،  و3 في صعيد مصر هم حصن ألفنتين وكوبتنية وجبل السلسلة، وحرم على الزنوج عبور الشلال الثاني.

 

أظهرت نقوش لوحة كارنرفون عن نص لوحة الكرنك للملك "كامس"، شقيق الملك أحمس الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشر، لتكون دليلا حيا على ما كانت تمثله مملكة كوش من أخطار على الدولة المصرية، فتذكر اللوحة الخطر القادم من الجنوب أثناء احتلال الهكسوس لمصر، ويقول فيها "أريد أن أعرف مدى قوتي فهناك في أواريس ملك أجنبي وفي كوش يحكم ملك آخر"، كما تذكر أيضًا أنه في عهد "كامس"، تم أسر رسول من الهكسوس في منطقة الواحات، كان متجها إلى كوش ليبرم تحالفًا مع أميرها ضد مصر.

قام تحتمس الثالث سادس ملوك الأسرة الـ18، بإخضاع بلاد النوبة حتى الشلال الرابع لحكمه، واستمر ذلك لستة قرون كاملة، فكان الحاكم الفعلي في "كوش" هو نائب الفرعون المصري، في ذلك العصر بلغت النوبة أقصى درجات رُقيها، فازداد الرخاء واتسعت التجارة بين البلدين، وتطبعت بطباع المصريين في كل شيء تقريبا، لكن ثورة أمنحتب الرابع الذي عُرف بـ"إخناتون" ودعوته للإله الواحد في أواخر القرن الرابع عشر، دفع بعض من كهنة آمون للهجرة فتوجهوا إلى جبل برقل واستقروا في مدينة "نباتا" في بلاد النوبة.

 

وفي القرن الثامن قبل الميلاد، استغل النوبيين ضعف الدولة المصرية، وتمكن الفرعون النوبي "كاشتا" أول عظماء الملوك في كوش من استرداد استقلال بلاده، وأقام عاصمة لمملكته في "نبته" جنوب الشلال الرابع، وقد عثر الأثريون على حجر أثري بالقرب من أسوان مازال يحتفظ بصورته، وبجوارها لقب كاشتا نفسه بـ"ملك مصر العليا والسفلي"، وهو اللقلب الذي استخدمه فراعنة مصر.

 

بعد وفاته كاشتا، نجح ابنه الملك "بعنخي" الذي خلفه في الحكم، في الهجوم على مصر من الجنوب واحتلالها عام 725 قبل الميلاد، وأسس الأسرة الـ25، التي امتدت نفوذها من سواحل البحر الأبيض المتوسط وحتى أعماق القارة السمراء على مشارف الحبشة، عُرفت هذه الأسرة بالأسرة الكوشية، وهكذا صارت مملكة كوش قوة عظمي.

سارت تلك المملكة على نهج الشعب المصري في كل مظاهر الحياة والحضارة، فملوكها اتخذوا الألقاب الفرعونية، وجعلوا الإله "آمون" إله الشمس عند المصريين القدماء معبود الدولة الرسمي، حتى أنهم شيدوا مقابرهم على الطريقة المصرية وزينوها بالرسوم والنقوش الهيروغليفية، ولعل أكبر ما يوضح أن الثقافة المصرية تركت أثر كبير على النوبيين، أن الأميرة الكوشية "أماني ريديس" ابنة الملك "كاشتا"، تزوجت من الإله آمون في طيبة، وصارت تُعرف بلقب "زوجة الإله".

 

وفي القرن السادس قبل الميلاد، انتقلت العاصمة من نبته إلى مروى، التي وصفت بـ"برمنجهام أفريقيا القديمة"، حيث تشير الآثار إلى مدى ما وصلت إليه من إزدهار ورقي، فيوجد بها 240 هرما، أكبرهم هرم الملك "طهارقة" أحد أبناء "بعنخي"، والذي احتل الأشوريين في عهده العاصمة ممفيس كما أسروا زوجته وأبنه، يبلغ ارتفاع هرمه 150 قدما، إلى جانب عدد من المعابد على رأسها "معبد الشمس" الذي ذاع سيطه حول العالم، بالإضافة إلى أكوام من فضلات الحمم التي كانت تخرج من أفران صهر الحديد، استمرت تلك العاصمة لثمانية قرون في نشر العقائد والأفكار والقدرات الفنية.

 

رغم أن كوش أكثر الحضارات التي نشأت في أفريقيا تميزًا بطابعها الأفريقي، إلا أنها استفادت من مظاهر الحياة المنتشرة حولها، ولعل معابد مدينة "النقعة" التي تبعد 170 كيلومتر شمال شرق مدينة الخرطوم، و50 كيلومتر إلى الشرق من نهر النيل، خير دليل على ذلك، فقد وصفها علماء الآثار بأحد أهم المراكز الحضارية في أفريقيا، حيث تضم مجموعة من المعابد المروية التي تعود إلى ما بين القرنين الرابع قبل الميلاد والرابع الميلادي، أهمهم معبدي "آمون" و "أباداماك".

يغلب علي معابد مدينة النقعة الطابع والطراز المصري، ويعكس الجدار الخلفي لمعبد الأسد ذلك الأسلوب، فقد نقش عليه رسما لأسد له أربعة أذرع، وثلاثة رؤوس، ويؤكد الأثريون أن هذا الفن تسرب إليهم من بلاد الهند، ويعد ذلك المعبد أروع الآثار القديمة الباقية في السودان، أنشأه الملك "أرنخاماني" في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، بالقرب منه معبد آخر يعكس الفن الروماني.

 

وفي جبل البركل، عثر الباحثين علي لوح حجري يعود إلى عهد الملك "تانوت أماني" أو كما يعرف بـ"تالتاماني" أحد أحفاد "بعنخي" وآخر ملوك المملكة الكوشية في مصر، توجد هذه المسلة حاليا في المتحف المصري بالقاهرة، جاءت النقوش المحفورة عليها لتوضح لنا صورة كاملة عن الغزو على مصر، فذكرت أن بعد تراجع أشور عن مصر قام "تالتاماني" بغزوها مجددا كما فعل جده، كما أظهرت مراسم تتويجه في جبل البركل، وعبرت عن إنه رأى أثنين من الأفاعي في أحد أحلامه، فأقتنع أنه سيحكم عرشي كوش ومصر، وبالفعل حقق حلمه هذا حتى وإن كان لفترة لم تتجاوز سنتين.

 

عندما علم "أشوربانيبال" آخر ملوك الإمبراطورية الآشورية الحديثة، الذي لُقب بملك العالم، أن الكوشيين أعادوا سيطرتهم على مصر، أرسل جيشا جرارا للانتقام، فهاجموا مدينة طيبة، وقتلوا ونهبوا أماكنها المقدسة، هنا تراجع "تالتاماني" إلى كوش واستقر فيها حتى وفاته، وقد عثر الأثريون على تمثال وحيد له، ولكنه بلا رأس، كان يوجد في جبل البركل، ويوجد حاليا في متحف توليدو للفنون الجميلة بالولايات المتحدة الأمريكية، أما الآشوريون فعينوا حاكمًا مصريًا على عرش مصر، وهو إبسماتيك الأول.

عثر الأثريون على تمثال عملاق آخر من الجرانيت في جبل البركل يمثل الملك "اتلانيرسا"، يوجد حاليا في متحف بوسطن للفنون الجميلة في ولاية ماساشوستس الأمريكية، كما عثروا على معبد ومدفن مخصصين له، لكنهما غير مكتملين البناء، ويعتقد المؤرخون أن وفاته المفاجئة حالت دون استكمال بناء معبده ومدفنه، ويعتقد بعض المؤرخين أنه الملك الذي كتب عنه المؤرخ هيرودوت، أنه قام بتحريض الجنود المصريين في جزيرة إلفنتين بالقرب من أسوان للهروب إلى كوش، ومساعدته في القضاء على أعدائه في جنوب مملكته، مقابل الحصول على أراضي وبالفعل حصلوا عليها وبنوا لهم مدنا في تلك الأراضي، وبعد ستة قرون، ذكر بعض كُتاب الرومان أن أحفدهم مازالوا مستقرين في هذه المدن.

 

يُعد الملك "أركاماني" الوحيد الذي ذكره المؤرخين الإغريق بالإسم، فقال عنه المؤرخ الإغريقي "أجاثارخيد السندوسي" في القرن الثاني قبل الميلاد، إنه تمرد على كهنة آمون، الذين طالبوه بالإنتحار، لكنه لم يمتثل لهذا الأمر كما كان فعل السابقون، وسار بجيشه إلى المعبد وقتل الكهنة، ويرى المؤرخون أن بداية عهد بمثابة بداية حقيقية للعصر المروي، فقد بدأ الكوشيون في تطوير أساليبهم الفنية والمعمارية الخاصة، التي تختلف تماما عن الأساليب المصرية القديمة، واخترعوا الكتابة المروية ليستخدموها بدلا من اللغة الهيروغليفية المصرية، حتى الإله آمون تغيرت عبادتهم له وأصبح الإله المروي الأسد أبادماك بقوته.

 

من أهم الآثار التي تبقت حتي الآن في جنوب مصر معابد فيلة، وهي جزيرة صغيرة تتوسط مجرى نهر النيل، تقع على بعد 4 كيلومتر إلى الجنوب من خزان أسوان، وتعتبر مقصورة إيزيس أقدم أثارها، حيث ترجع إلى عهد الملك "طهرقا" عام 700 قبل الميلاد، ومعبد "كلابشة" الذي وصف بأكمل معابد بلاد النوبة، وكُرس لعبادة الإله النوبي "ماندوليس".

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية