تكونت صخوره منذ 70 مليون سنة

"الصحراء البيضاء".. أرض الثلوج الساخنة وحضارة العشرة آلاف سنة

"تبدوا وكأنها القطب الشمالي أو صحراء سيبيريا الجليدية".. هكذا أطلق عليها رحالة الصحراء الغربية، إلا أن شمسها الحارقة، ورياحها الحارة، أخرجتها من هذا التصنيف البارد.

 

"الصحراء البيضاء".. هنا يحتضن الخيال الواقع، حتى يخيل إليك أن الطبيعة تتناغم في رقصات هزلية صبيانية لتخلق ذلك المشهد المتناقض بين الجو الحار، والصورة الجليدية الباردة، تقع على بُعد 45 كيلومترا شمال واحة الفرافرة، على بعد 570 كيلومترا من القاهرة، تبلغ مساحتها 3010 كيلومتر مربع.

 

عالم من الرمال المنجرفة والثروات الزائلة، وتاريخ طويل عبر الزمن يمكن اكتشافه من خلال هذا المشهد الطبيعي، فالحفريات المتناثرة على أرضه البيضاء تعد مؤشر واضح لتغير المناخ في تلك المنطقة عبر التاريخ، وتعود صخورها إلى العصر الطباشيري، الذي يعود إلى 70 مليون سنة مضت، وتكونت نتيجة غمر بحر "تيثيس" تلك المنطقة.

في قلب الصحراء البيضاء متحف طبيعي للطباشير الصخري، فهنا فقط يمكنك أن ترى الدجاجة بجوار القنبلة الذرية، أو ما يطلق عليه البعض "الدجاجة والفطر"، وهي تلك الصخرة التي تستخدم كشعار للمنطقة منذ أعلنت كمحمية طبيعية عام 2002، كما توجد صخور كثيرة اشتهرت بأسماء تبعا لشكلها النحتي، أشهرها صخرة الجمل، والحصان، والصقر، بالإضافة إلى الرمال المعروفة باسم الصخور الأفريقية، لأنها تتخذ شكل قارة أفريقيا وكأنها خريطة مرسومة بدقة.

 

كما توجد مجموعة لا حصر لها من الأشكال والألوان وبلورات كاربونات الكالسيوم الصغيرة وعقيدات بيرايت الحديد، بالإضافة إلى البلايا، وهي أحد مخلفات بحيرة قديمة تآكلت عبر العصور، وعادة ما يستغل النبات المناطق المنخفضة من هذه الصحراء، حتى أضحت منخفضاتها بساتين وحقول، أشهرها منخفض الفرافرة، أصغر واحات الصحراء الغربية، ورد ذكرها في العصور الفرعونية القديمة، كانت تعرف بـ"تا إحت" أي أرض البقرة، وهو إسم مشتق من الإله حتحور، وقد أطلق عليها المصريون القدماء هذا اللقب لكثرة المراعي والأبقار بها.

 

أما في العصور الرومانية فقد أطلق على الفرافرة والواحات الداخلية والواحات البحرية لقب "أرض الغلال"، لإعتماد الإمبراطورية الرومانية عليها في الحبوب، ومازال يوجد بالمنخفض بقايا من أبنية هذا العصر، منها قصر الفرافرة، ومعبد "عين بس"، بالإضافة إلى مقابر صخرية خالية من النقوش.

وكانت الفرافرة الملجأ الوحيد للمسيحيين الذين أضطهدهم الرومان في العصر المسيحي الأول، وتوجد بصمات واضحة لهم في مناطق القس أبو سعيد، وعين أبشواي، ووادي حنس، أما في العصر الإسلامي، فإزدهرت بها تجارة البلح والزيتون، حتى أن القوافل كانت تحمل منتجات الواحة إلى ديروت، وتعود إليها بالأقمشة والشاي.

 

وفي العصر الحديث، قام الخديوي إسماعيل سنة 1874 بتحويل رحلة العالم الألماني الشهير "جيرهارد رولف" إليها، ليبحث حول حقيقة وجود نهر بلا ماء في المنطقة، ولقد حاول "رولف" اختراق بحر الرمال الأعظم، الذي يقع غرب الفرافرة، لكنه لم يتمكن من ذلك، لذا إتجه إلى الشمال بقافلة مكونة من 100 جمل و90 رجلا، منهم 12 يحمل الجنسية الألمانية، يحملون مختلف فروع العلم، مثل الجيولوجيا، والنبات، والحيوان، والآثار، والفلك، والمساحة، ونشر كتابه " ثلاثة أشهر في الصحراء الغربية".

 

وتعتبر الفرافرة أكثر الواحات عزلة، لذلك يتميز سكانها بالتجانس اللغوي والفكري، وهم من أصول عربية تتمسك بالعادات والتقاليد المتوارثة، وعلى من يطأ أرضهم أن يتبع تقاليدهم المحلية، وقد قال الرحالة الأوروبي "كايو" عام 1819، أن عزلة الواحة تزيد من خوف أهلها من الغرباء، ينتمون إلي 6 قبائل هي الحنانوة، والعيادية، والركابية، والرميحات، والقدادرة، والعكارتة، فمنهم من جاء من الصعيد، ومنهم من جاء من الجزيرة العربية، ومن ليبيا، وتونس.

قديما كانت الصحراء البيضاء تزخر بالبشر، وقد جاءت النقوش والزخارف التي تزين جدران كهف "الأبيض"، دليلا على تلك الحضارة التي سادت في هذه المنطقة منذ 10 آلاف سنة مضت، تلك النقوش عبارة عن زخارف حيوانية تعكس تقاليد الفن الصخري النوبي، كما توجد رسوم ليدين بشريتين تزينت بها جدران الكهف.

 

على مقربة من الكهف، توجد هضبة تقبع عليها هياكل لآثار غامضة تلاشت قصص أصحابها من الذاكرة بمرور الزمن، لكنها تشير على أي حال إلى تلك الحقب الزائلة، كما ترك إنسان ما قبل التاريخ نقوشه عند مدخل كهف الجارة، وهو من أندر الكهوف في العالم، الغنية بالرواسب الكلسية، يصل عمره إلى 40 مليون سنة، يقع بالقرب من وادي محرق، بعد محمية الصحراء البيضاء بحوالي 7 كيلومتر باتجاه أسيوط، اكتشفه الألماني جيرهارد رولفز عام 1873.

 

كهف الجارة عبارة عن منخفض تحت سطح الأرض يعلوه تبه مرتفعة، ومدخله عبارة عن فتحة صغيرة أسفل التبة، وهي متصلة بممر ضيق منحدر، مملوء بالرمال، ويعد الكهف دليلا حيا على الحياة الرخوة في الصحراء الغربية في العصور القديمة، فقد نشأ كنتيجة طبيعية للماء النقي والمناخ الجاف في الصحراء عبر ملايين السنين، وهو يخالف كل كهوف المنطقة في تكويناته وشكل ترسيباته التي تبدو كالشلالات النارية، وتصل ارتفاعات التكوينات الرسوبية حسب وصف رولفز إلى ثلاثة أو أربعة أقدام.

وعادة ما يفضل زائرو الصحراء البيضاء التخييم فيها، فلا يوجد مكان آخر يظهر كل هذا الكم من النجوم التي ترصع السماء، كما يظهر في سماءها درب التبانة واضحا جليا فوق الصخور، كما يضوي كوكب الزهرة ليزين سماء الليل بضيائه.

مجلة علمية معرفية وثائقية تتناول الشخصية المصرية